قبل أشهر طويت 10 سنوات على سقوط بعض مدن الشمال المالي بأيدي الجماعات المسلحة، والذي شكل بداية لعدم استقرار أمني في شمال ووسط البلاد، قبل أن يتوسع التهديد لاحقا باتجاه بعض دول الجوار، واليوم توجد إرهاصات بشأن تمدده نحو دول منطقة خليج غينيا.
وقد شكل الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس المالي الأسبق أمادو توماني توري في 22 مارس عام 2012، أسابيع قبل موعد الانتخابات الرئاسية، وما تلاه من فراغ في السلطة، نقطة حاسمة في تمرد الجماعات المسلحة، حيث سيطرت على نحو ثلثي البلاد.
وبعد أشهر من تقدم هذه الجماعات، وخصوصا بعد فرض سيطرتها على مدينة “كونا” الواقعة على بعد 600 كلم شمالي شرقي العاصمة باماكو، تدخلت فرنسا عسكريا في 11 يناير 2013.
وقد مكن التدخل الفرنسي الذي جاء بطلب من السلطات المالية، من استرجاع المدن التي سيطرت عليها الجماعات المسلحة، لكن دون اختفاء هذه الجماعات.
وعلى إثر استرجاع المدن من قبضة المسلحين، وانتهاء المعارك في ابريل 2014، خفضت فرنسا عدد قواتها بمالي، وأعلنت لاحقا انتهاء عملية “سرفال”، وبدء “بارخان” كعملية عسكرية ذات بعد إقليمي، حيث تغطي كلا من مالي والنيجر وبوركينافاسو وتشاد وموريتانيا.
وقد ظلت مقابل ذلك الجماعات المسلحة تنفذ هجماتها من حين لآخر، ودخل الوضع في منطقة الساحل مرحلة جديدة ابتداء من عام 2015، حيث باتت دولتا بوركينافاسو والنيجر المجاورتان لمالي تتعرضان لهجمات مسلحة.
أما تشاد فعانت وما تزال من خطرين مسلحين، أحدهما تمثله الجماعات المتمردة، وقد شكل مقتل رئيس البلاد إدريس ديبي إتنو شهر ابريل 2021 على أيدي هذه الجماعات، أبرز مؤشر على ذلك.
أما الخطر المسلح الثاني فتشكله جماعة بوكوحرام نتيجة حدود تشاد من الجنوب الغربي مع نيجيريا، بلد نشأة هذه الجماعة، التي توسع انتشارها لاحقا باتجاه دول الجوار.
وشكلت حدود النيجر مع ليبيا وتشاد من الشرق، ونيجيريا من الجنوب، ومع بوركينافاسو ومالي من الشمال، خطرا مضاعفا يتهدد البلاد، ما جعلها تنفتح على الغرب لمساعدتها عسكريا، وكان من نتائج ذلك احتضانها عدة قواعد عسكرية أجنبية.
ورغم الحضور العسكري الفرنسي طيلة العقد الماضي، والوجود العسكري الأممي، وكذا نشر مجموعة دول الخمس في الساحل قوة عسكرية مشتركة، فإن هجمات الجماعات المسلحة لم تتوقف.
وتوثق معطيات نشرتها منظمة “موقع الصراع المسلح ومشروع بيانات الأحداث” المعروفة اختصارا ب”أكليد ACLED” بأن الصراع المسلح في الساحل، خلف مقتل 11276 مدنيا في مالي والنيجر وبوركينافاسو، منذ 2012.
وينضاف إلى هذه الحصيلة الكبيرة، مقتل آلاف العسكريين في صفوف قوات الدول الثلاث وقوات حلفائها ممثلين في فرنسا، والدول الشريكة في البعثة الأممية المنتشرة في مالي منذ 2013، وتم قبل أيام تمديد ولايتها لمدة سنة.
وينتظر أن يتواصل النزيف في صفوف المدنيين والعسكريين بمالي خصوصا، في ظل قرب اكتمال الانسحاب النهائي لقوة “بارخان” الفرنسية، والانسحاب الرسمي لقوة “تاكوبا” الأوروبية، رغم محاولة السلطات المالية استبدال فرنسا وحلفائها، بروسيا.
لكن خطر الصراع المسلح لا يقتصر على مالي والنيجر وبوركينافاسو وتشاد، وإنما يتجه نحو التو سع في منطقة الغرب الإفريقي، آخر مؤشرات ذلك تزايد الهجمات في دولتي التوغو وبنين.
وينتظر تماشيا مع مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، أن لا تبتعد فرنسا كثيرا بقواتها عن مالي، فقد تتمركز في النيجر، التي صوت برلمانها مؤخرا على السماح بنشر قوات أجنبية، على أن توسع انتشارها في بعض الدول المطلة على خليج غينيا الغني بالنفط والغاز، والذي سيشكل في المرحلة المقبلة مركزا جديدا للتنافس الدولي على القارة، في ظل الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها خصوصا فيما يتعلق بإمدادات الغاز.
لكن كل ذلك لن يغير من معادلة النزاع المسلح، ويبدو أن منطقة الساحل قد تشهد عقدا آخر من الصراع وعدم الاستقرار السياسي والأمني، ما لم يتم الحوار مع الجماعات المسلحة، والتوصل معها لاتفاق يضع بموجبه الصراع المسلح أوزاره، ويتم التفرغ لمعارك التنمية والبناء الديمقراطي على أسس صلبة، لا تزعزعها تحركات أصحاب البزات العسكرية والنياشين.
محفوظ ولد السالك كاتب متخصص في الشؤون الإفريقية