لا يعتبر إعلان الرئيس الانتقالي المالي عاصيمي غويتا 14 من يناير “يوما للسيادة الوطنية”، يحتفى به رسميا في البلاد، حدثا عابرا، إنه استمرار للعزف على ذات الوتر الذي عزف عليه عسكريو باماكو، بعدما نفذوا انقلابين عسكريين، أولهما على رئيس منتخب، وثانيهما على رئيس انتقالي تربطهم وإياه وشائج الانتماء للمؤسسة العسكرية.
لقد بنى غويتا ورفاقه استراتيجيتهم – الدفاعية والهجومية – منذ الوهلة الأولى على “السيادة”، و”الهوية”، و”التحرر”، و”امتلاك القرار”، وغيرها من المفاهيم التي تحيل إلى حقبة الاستعمار.
وقد استغل الحكام العسكريون الجدد من أجل بناء تصورهم هذا، حالة الفراغ الأمني الذي تعانيه البلاد منذ سقطت بعض مدنها الشمالية بأيدي الجماعات المسلحة عام 2012، قبل أن تتسع جغرافيا عدم الاستقرار الأمني لاحقا لتشمل إلى غاية الآن مناطق واسعة في الشمال والوسط، بل إن الخطر انتقل إلى بعض دول الجوار كالنيجر وبوركينافاسو.
لقد حمل العسكريون فرنسا الحليف التقليدي لبلادهم والمستعمرة السابقة لها، مسؤولية كل هذا التدهور الأمني، واعتبروا نحو عقد من عدم إحلال السلام في ربوع البلاد، مؤشرا على الفشل، ودخلوا معها في صراع، انتهى بانسحابها العسكري من البلاد.
وقد كان ذلك مطلبا شعبيا، إذ كثيرا ما خرجت حشود جماهيرية في مناطق مختلفة من مالي، تطالب بمغادرة القوات الفرنسية، بل إن “ثورة الإمام” محمود ديكو، التي أكملها العسكريون بانقلابهم على الرئيس الراحل إبراهيم بوبكر كيتا، كانت تتأسس في جانب منها على هذا البعد.
وضمن ذات الإطار انقلب العسكريون فيما بعد على العسكري السابق باه نداو، إذ من بين المسوغات التي قدمت، أن نداو كان “بيدقا” بيد فرنسا، وهذا يتنافى مع روح “الثورة والانقلاب”.
وهكذا ربح غويتا ورفاقه قاعدة شعبية عريضة ليس في مالي فقط، وإنما في منطقة غرب إفريقيا والساحل بشكل عام، وباتت الجماهير في بلدان أخرى مجاورة تطالب برحيل فرنسا.
لكن ما صادف هوى شعبيا داخليا وإقليميا، يناقض المقتضيات والأحكام المعمول بها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “سيدياو”، ففرضت عقوبات اقتصادية وتجارية على البلاد، بعدما لم يستجب المجلس العسكري الانتقالي، لإعادة السلطة إلى المدنيين.
وباتت مالي على إثر ذلك في عزلة إقليمية مطبقة، وكانت موريتانيا وغينيا كوناكري منفذيها الوحيدين على العالم الخارجي.
لكن العسكريين واصلوا ترديد ذات اللازمة المتعلقة ب”السيادة”، فاعتبروا العقوبات “جائرة”، و”غير شرعية”، كما اعتبروا “سيدياو” بمثابة يد فرنسا التي تبطش بها.
ونجح العسكريون بذلك في شحذ أذهان الشعب المالي وإقناعه بأن العقوبات، محاولة لإعادة مالي إلى الوراء، وتقويض ما تحقق من مكتسبات، فانتفض الماليون بالملايين في الداخل والخارج في 14 يناير 2022، رفضا لعقوبات “سيدياو” والاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا، والتي استمرت أشهرا، قبل أن يتم رفعها لاحقا بعد الاتفاق مع المجلس العسكري الانتقالي على تنظيم انتخابات في غضون عامين.
وقد أبقت “سيدياو” على تعليق عضوية مالي، وكذا العقوبات الفردية المفروضة على أعضاء المجلس العسكري وعائلاتهم، والتي تشمل حظر السفر، وتجميد الأصول المالية.
وكبادرة حسن نية على الوفاء بالتزاماته، أصدر المجلس العسكري قبل أشهر قانونا انتخابيا، أتبعه بإصدار مرسوم يحدد فبراير 2024 موعدا للانتخابات الرئاسية، على أن تجرى الانتخابات التشريعية في نوفمبر 2023، يسبقها استفتاء على الدستور سينظم شهر مارس المقبل.
وبين يدي الاستعداد لتنظيم الانتخابات، بدأت أوساط شعبية وحزبية تطالب بانتخاب غويتا رئيسا للبلاد، من أجل المحافظة على “السيادة الوطنية” التي تحققت في عهده خلال المرحلة الانتقالية.
وقد مهد العسكريون لما يتجه الآن لأن يصبح مطلبا جماهيريا، من قبل فالقانون الانتخابي لا يحظر عليهم الترشح للرئاسة، وبالتالي فإنهم سيتجهون للبقاء في السلطة بطريقة “انتخابية” بعدما أخذوها بالقوة، وفي كلتا الحالتين كانت “السيادة” هي كلمة السر.
محفوظ ولد السالك: كاتب متخصص في الشؤون الإفريقية