حدثان هامان عرفتهما القارة الإفريقية خلال الأيام الأخيرة، أولهما تمثل في دعوة سلطات بوركينافاسو الانتقالية، فرنسا إلى سحب قواتها من البلاد في غضون شهر بعد أزيد من 4 سنوات على وجودها هناك، بينما الوضع الأمني يشتد اضطرابا، وهجمات الجماعات المسلحة تتزايد بعدة مناطق.
هذا الموقف الصادر عن سلطات بوركينافاسو التي تحكم البلاد منذ أشهر قليلة فقط، خرج الآلاف أمس في واغادوغو تعبيرا عن تثمينه، ومساندة صانعه النقيب إبراهيم تراوري، مؤكدين رفضهم “للاستعمار”، ودفاعهم عن سيادة بلدهم.
أما الحدث الثاني، فتمثل في احتضان السنغال على مدى 3 أيام، أعمال قمة تبحث موضوع السيادة الغذائية في القارة الإفريقية، وهي ثاني قمة من نوعها تنظم بالبلاد منذ العام 2015.
وفي الواقع فإن تحقيق السيادتين المفقودتين بعدد من بلدان القارة الإفريقية، طريقه واحد فالبلاد غير المنتجة لاحتياجاتها غذائية كانت أو دوائية أو عسكرية أو غيرها، تظل رهينة التبعية، سهل التحكم في قرارها، وتفقد تدريجيا سيادتها بشكل مباشر وغير مباشر.
لقد تسبب انعدام الأمن الغذائي في جعل ثلث جوعى العالم اليوم بإفريقيا، فمن أصل 828 مليون شخص يعانون من الجوع على الصعيد العالمي، يوجد أكثر من 249 مليونا منهم في القارة الإفريقية.
وزاد من حدة وطأة الجوع بالقارة، اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، فالبلدان المتحاربان منذ نحو سنة، تعتمد عليهما إفريقيا بشكل كبير في توفير غذائها، رغم امتلاكها أكثر من 65% من الأراضي الصالحة للزراعة.
وكما أدى انعدام الأمن الغذائي إلى الاعتماد على الخارج، فقد أدى كذلك اضطراب الأمن في عدد من بلدان القارة – والذي يعد الفقر وضعف التنمية، وانعدام فرص التشغيل بعض أسبابه المباشرة – إلى الاعتماد على الخارج كذلك من أجل طرد الجماعات المسلحة.
فعلى إثر سقوط بعض مدن الشمال المالي سنة 2012 بأيدي الجماعات المسلحة، استدعت الحكومة المالية فرنسا للتدخل العسكري من أجل استعادة مدنها، وبالفعل تدخلت فرنسا في العام 2013 من خلال عملية “سرفال”، التي استلمت منها المشعل لاحقا عملية “بارخان”.
ومكث الوجود العسكري الفرنسي في مالي زهاء 10 سنوات، استرجعت خلالها مدن الشمال، لكن الجماعات المسلحة توسع انتشارها بالشمال والوسط، ووصل التهديد دولتي النيجر وبوركينافاسو المجاورتين، وهو ما برر التوسع العسكري الفرنسي في منطقة الساحل.
وإزاء هذا الوضع، تولد رفض الوجود العسكري الأجنبي لدى الماليين، وباتوا يحتجون ضد القوات العسكرية الفرنسية، ويطالبون بمغادرتها، ونفس الأمر حصل في النيجر وبوركينافاسو وتشاد.
وعلى إثر ذلك، تبنى المجلس العسكري الحاكم بباماكو مطلب انسحاب القوات الفرنسية، ودعا لمغادرتها بدعوى أنها لم تعد جزءا من الحل، وتحالف مع روسيا كبديل عنها، وبات لمجموعة “فاغنر” شبه العسكرية حضور في البلاد، بدافع تكوين وتدريب الجيش المالي.
ويبدو أن بوركينافاسو تحذو الآن حذو الجارة مالي، فقد تحالفت – كما تفيد بذلك بعض التقارير – مع “فاغنر” كبديل عن القوات الفرنسية.
وفي خطوة مشابهة كذلك انسحبت فرنسا عسكريا من جمهورية إفريقيا الوسطى، وأفسحت المجال لروسيا، التي عادت بقوة للتغلغل في إفريقيا عبر البوابة الأمنية.
ورغم تضييق الخناق عليها في البلدان المذكورة، إلا أن فرنسا توجد لديها قواعد عسكرية في عدة دول خصوصا بغرب القارة، كما توجد لأطراف أخرى قواعد مشابهة ببعض البلدان، كالصين التي تمتلك قاعدة في جيبوتي، والولايات المتحدة الأمريكية التي لديها قاعدة في الصومال.
وكما يبدو الطريق طويلا أمام إفريقيا لتأمين سيادتها الغذائية – ما يجعلها تظل تعتمد على الدعم والمساعدات – فإن الطريق طويل أمامها كذلك نحو تحقيق سيادتها السياسية، وبسط الأمن في كافة ربوعها، وما يحصل حتى الآن من خروج لفرنسا ودخول لروسيا، هو صراع نفوذ لا أكثر.
فالسيادة ستتحقق يوم تنتج إفريقيا ما تحتاجه غذائيا، دون الحاجة للاستيراد، وتقاتل جيوشها بمفردها لتأمين سكانها وصون حوزتها الترابية، دون الاستنجاد بأي قوى خارجية.