spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

الصين.. والشرق الأوسط كبوابة على العالم

صحبتُ وفدَ العلماء والمفكرين والإعلاميين الذي شكّله مجلس المجتمعات المسلمة في الإمارات برئاسة رئيسه الدكتور علي راشد النعيمي في زيارته الأخيرة لإقليم «سنجان» (شينجيانغ) في أقصى شمال غرب الصين.

كان هدفُ الزيارة التي شملت مدن أورومتشي والتاي وكاشغر الاطلاعَ على أوضاع المسلمين في هذه المنطقة وزيارة المراكز الدينية والعلمية وتقديم الدعم المناسب لها حفاظاً على الهوية الإسلامية لهذه المنطقة المحورية. اصطحبتُ خلال الرحلة كتاب المؤرخ الفرنسي الشهير فرناند بروديل «نَحوُ الحضارات» الذي خَصص فيه فصلين هامين للحضارة الصينية، في جذورها التاريخية وتجلياتها الحاضرة.

ومن أهم المعطيات التي يذكرها الكتاب الطابع الحضاري المتنوع للمجتمع الصيني الذي انصهرت فيه التقاليد الدينية الآسيوية الثلاثة الكبرى: الكونفوشيوسية والطاوية والبوذية. وفي حين كرست الكونفوشيوسية جوهرَ النظام التراتبي للمجتمع والدولة في مواجهة شتى مخاطر الفوضى والفراغ، كانت الطاوية طريقاً روحانية للخلاص الفردي من خلال التأمل والمجاهدة، أما البوذية المستمدة من الهند وآسيا الوسطى فهي عقيدة فناء الذات واستنساخ الأرواح.

ومن هذا الخليط الروحاني تشكّلت الروحُ الصينيةُ متجسدةً في النظام الإمبراطوري الذي حكم البلاد طيلة أربعة آلاف سنة وضمن لها الاستقرار السياسي الطويل. ولقد قامت الإمبراطورية الصينية على فكرة التوازن والنظام، واستندت إلى مؤسسات صلبة تديرها طبقة المندرين المتعلمة، وهي البيروقراطية المتنفذة التي تتحكم في مكونات الجسم الاجتماعي الأخرى (الفلاحون والحرفيون والتجار).

وإذا كان الجنوب الصيني قد فرض ريادتَه في الصين منذ القرن الثالث عشر الميلادي، فإن هذا التحول يجب ألا يغطي على الحقبة المونغولية الحاسمة في تاريخ البلاد. ووفق بروديل، فقد تميزت هذه المرحلة التي دامت بين عامي 1215 و1368 بكونها فتحت الصينَ على آسيا الوسطى ومنها إلى أوروبا عن طريق مسلكي البحار والصحاري، وتلك هي حقبة طرق الحرير التي تسعى الدولة الصينية المعاصرة إلى تنشيطها مجدداً.

وبعد نهاية المرحلة المونغولية وبداية عهد المينغ انغلقت الصين مجدداً على نفسها وانقطعت عن العالم. ومع «حروب الأفيون» في القرن التاسع عشر، انفتحت الصينُ مضطرةً على أوروبا واليابان، وعانت كثيراً من سياسات التدخل والهيمنة التي فرضتها عليها الدول الغربية وروسيا واليابان، واقتطعت أجزاءَ واسعة من أرضها، ولم تتمكن من استعادة وحدتها النسبية واستقلالها إلا مع الثورة الوطنية التي قادها الزعيم «سن يات سن» في بداية القرن العشرين، قبل أن يسيطر الحزب الشيوعي على الحكم عام 1949.

ما يهمنا في هذه المعطيات التاريخية التي أوردها بروديل هو إبراز العمق الآسيوي الأوسط للصين من حيث حدودها المشتركة مع هذا المجال الذي تنتمي إليه الجمهوريات المسلمة المنفصلة عن الاتحاد السوفييتي (طاجكستان وقرغيزستان وكازاخستان..) مع الانفتاح على العالَم الهندي والأفغاني. وإذا كان العمق الصيني يتحدد أساساً في شرق آسيا، إلا أن المكون الصحراوي هو منفذ البلاد الحيوي إلى العالَم الخارجي، وهو أفق التوسع التجاري والاقتصادي الصيني في المستقبل.

إن هذا المنفذ الاستراتيجي هو البوابة إلى إقليم الشرق الأوسط بمفهومه الواسع الذي هو اليوم من الحلقات المحورية لمشروع «الحزام والطريق»، أي طرق الحرير الجديدة التي تراهن عليها الصين للتحكم في منظومة العولمة. في هذا السياق، يندرج المشروع الصيني للربط البري بين مدينة كاشغر في سنجان وميناء جوادر الباكستاني الواقع على بحر العرب، بما يفسح الطريقَ أمام المنتجات الصينية للوصول إلى الجزيرة العربية وبلدان الخليج عن طريق المحطات العمانية واليمنية، ومنها إلى بقية العالم العربي وأوروبا.

ومن الواضح أن الصين التي تصارع من أجل التحكم في قلب المنظومة الأوروآسيوية مستفيدةٌ من الموقف الجديد المتولّد عن الحرب الروسية الأوكرانية، تسعى بقوة إلى توطيد حضورها وتأثيرها في الشرق الأوسط الكبير، بما يوفر للعرب والمسلمين فرصةً قويةً لحوار مثمر وناجع مع هذه القوة العالمية الكبرى التي تتداخل مع منطقتنا في مقومات حضارية وجيوسياسية عميقة

في رحلة الصين، كان أحد الأصدقاء مواظباً على قراءة كتاب حول البحّار الصيني المسلم «تشنغ خه» الذي احتفلت الصينُ عام 2005 بمرور ستمائة سنة على أولى رحلاته البحرية الكبرى التي يعتقد أنه وصل فيها إلى الكاريبي قبل كولومبوس، كما زار فيها سواحل المحيط الهندي والبحر الأحمر والجزيرة العربية. وقد قال لي الصديق: «ما يستنتج من هذا الكتاب هو أن العمق الغربي الصحراوي للصين هو طريقها إلى العالمية والتمدد الخارجي».

الدكتور السيد ولد أباه / مفكر موريتاني

spot_img