قبل ساعات حطت طائرة المستشار الألماني أولاف شولتس في مطار العاصمة السنغالية داكار، في أول زيارة للقارة الإفريقية يقوم بها بعد 6 أشهر من توليه المنصب، وكان في استقباله عند سلم الطائرة الرئيس السنغالي ماكي صال، وفي مؤتمر صحفي مشترك، عبر الطرفان عن اعتزازهما بمستوى الشراكة بين بلديهما وآفاقها المستقبلية، خصوصا في ميدان الطاقة، والغاز المشترك مع الجارة موريتانيا، التي لم يرد ذكرها على لسان الطرفين.
لم يكن أولاف أول الواصلين للسنغال التي باتت قبلة لقادة الدول الكبرى الراغبة في وضع قدم في المنطقة، فقد حطت طائرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مطار داكار في 22. 02. 2022، ليفتتح مشاريع اقتصادية، ورياضية، عملاقة، رفقة نظيره السنغالي، كما فعل المستشار الألماني تعبيرا عن حجم ومستقبل التعاون القائم بين بلديهما مع الجارة الجنوبية، وقبلهما حطت طائرة الوزير الأول الإسباني، كما استقبلت داكار وزيرا خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، وإيطاليا..
بالنسبة للكثيرين يطرح النجاح الدبلوماسي المستمر للجارة الجنوبية عدة تساؤلات عن سبب غياب نواكشوط خلال السنوات الأخيرة عن بوصلة الاهتمام الدولي منذ وصول نظام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني لسدة الحكم في البلاد؟
يؤكد عدد من المراقبين السياسيين في حديث مع مدار أن نواكشوط لم يسبق لها الغياب عن جدول زيارة قادة الدول الكبرى للمنطقة، مثل ما حصل معها في سنوات حكم ولد الشيخ الغزواني، ففي سنة 2018 استقبلت داكار الرئيس الفرنسي الحالي، لتستقبله نواكشوط بعد ذلك بأشهر قليلة، تماما كما حصل قبل سنوات مع الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك الذي يعد آخر رئيس فرنسي زار البلدين قبل ماكرون، مع الأخذ في الاعتبار فارق التوقيت الزمني، وفي ذات العام استقبلت العاصمتان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهو ما يؤكد أن نواكشوط لم تكن في يوم من الأيام بعيدة من المكانة الدبلوماسية التي تحظى بها جارتها الجنوبية عند القوى الكبرى، المهتمة بالمنطقة، فقد لعبت نواكشوط منذ فترة الرئيس المختار ولد داداه أدوارا دبلوماسية محورية في القارة الإفريقية، واستطاعت في سنة 2014 تأسيس وقيادة مجموعة الساحل الخمس، التي سعت دول فاعلة في المنطقة لعضويتها، لكن نواكشوط رفضت ذلك احتفاظا لنفسها بموطئ قدم يمكنها من تصدر المشهد في محيطها، فموقعها الجيوسياسي، وكذا الجغرافي يسمحان لها دوما بالمناورة، وحجز مكانة لائقة في المنطقة، وهو ما حاولت مختلف الأنظمة التي تولت سدة الحكم في نواكشوط المحافظة عليه، رغم تعرض بعضها لضغوط دولية ناتجة عن سياساتها الداخلية.
يرى عدد من المراقبين أن ولد الشيخ الغزواني انشغل بما خلفه سلفه من مشاكل داخلية عميقة بين الطبقة السياسية..، وزاد من معاناة نظامه، الدخول في مواجهة مفتوحة مع رفيق دربه وشريكه السابق في الحكم، تاركا الشؤون الخارجية في يد وزير لم يختره بل ورثه عن صديق العمر، وعدو الحكم، ولا يختلف اثنان على تاريخ وزير الخارجية السابق لمكانته المحورية في أروقة الأمم المتحدة، بصفته موظفا منتدبا من طرف بلاده، حيث شغل عدة مناصب لا علاقة لها بوضع الاستراتيجايات الدبلوماسية للدول، بل كان طابعها العام، العمل في بعثات الإغاثة، وحل النزاعات، وهو ما ولد لديه وفق البعض تخوفا كبيرا من اقتحام الأزمات، وسيطر على فكره، وكان الموجه الأول له، خلال فترة إدارته للخارجية الموريتانية، فاختار المهادنة، وعدم المخاطرة، في محيط محفوف بالمشاكل والأزمات، فغابت بذلك موريتانيا عن أبرز الأحداث، ولم تتدخل في أكثر الملفات حساسية بالنسبة لعمقها الاستراتيجي شمالا، وجنوبا، واكتفت بالتفرج على الانقلابات المتتالية في مجموعة دول الساحل، ولم تحرك ساكنا بل توقف دورها في التعاطي مع هذه الأزمات المتلاحقة، على إلغاء الرئيس متابعة صفحات نظرائه السابقين في الحكم على تويتر.
فتح غياب نواكشوط عن مركز القيادة في دول الساحل الخمس الباب أمام دولة النيجر لتلعب أدوارا ريادية في المجموعة، وهو ما انعكس سلبا على هذه الأخيرة وفق بعض المراقبين، خاصة بعد رفض نيامى رئاسة باماكو للمجموعة في ظل الحصار المفروض على المجلس العسكري الحاكم فيها، من طرف المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إكواس”، وفرنسا، لتستفيق نواكشوط قبل أيام على ما اعتبره كثيرون انهيارا للصرح الذي بنته، وتصدر من بوابته الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني المنابر في باريس وبروكسل..، هذا الانهيار الذي شكل صدمة لعدد من المراقبين الموريتانيين، تعامل معه نظام ولد الشيخ الغزواني ببرودة أعصاب في البداية، قبل أن يقرر مواجهة الحقيقة المرة بشكل خجول عبر بوابة وزارة الخارجية، المصدومة هي الأخرى من رفض سفارة الولايات المتحدة المعتمدة في نواكشوط منح تآشر دخول لوفد موريتاني رفيع بقيادة وزير الخارجية، بعد توجيه دعوة رسمية له، من طرف وزير الخاريجية الأمريكي للمشاركة في مؤتمر دولي تحتضنه الولايات المتحدة، وهو ما يبين وفق بعض المحللين عدم نجاعة، وفشل الدبلوماسية الموريتانية في السنوات الأخيرة.
ويرى بعض المراقبين أن ولد الشيخ الغزواني قرر بشكل تام، خلال ما مضى من مأموريته الأولى، التخلي عن الدور الريادي لموريتانيا في محيطها الإقليمي، وهو الموقف الذي تعزز بإحالة وزير داخليته المقال بعد الغضب الرسمي من أداء قطاعه، إلى منصب وزير الخارجية، الذي يعد هامشيا بالنسبة لأوليات نظامه، قبل أن يشفع ذلك القرار..، بتعيين وزير خارجيته السابق مديرا لديوانه ومشرفا بحسب طبيعة مكانته لبرتكولية على تسيير الخارجية، ذلك ما يفسر بالنسبة لبعض المراقبين برودة أعصاب النظام اتجاه الأحداث المتسارعة في محيطه الاستراتيجي الضيق، فاكتفى بالتفرج عليها، وهو ما أفقد موريتانيا مكانتها الريادية في المجموعة، وفي المنطقة بصفة عامة، وجعلها خارج اهتمامات قادة الدول الكبرى منذ وصول ولد الشيخ الغزواني لسدة الحكم، فاتحا بذلك الباب أمام النيجر التي باتت، كما السنغال قبلة لكبار قادة دول العالم، الساعين بشكل حثيث إلى إيجاد موطئ قدم لبلدانهم في المنطقة.
فمتى تستفيق الدبلوماسية الموريتانية وتستعيد بعض ألقها..؟