صبحت موريتانيا محل اهتمام كثير من الدول والكيانات الإقليمية، كونها من بين الدول القليلة في منطقة الساحل الأفريقي التي تتمتع بقدر من الاستقرار، وفق تحليل لمجلة “فورين بوليسي”.
التحليل لفت إلى سعي الصين وروسيا إلى جانب من وصفهم بالقوى الإقليمية، للتقرب من نواكشوط، خصوصا بعد سلسلة الانقلابات التي مكّنت عسكريين في كل من مالي وبوركينافاسو والنيجر، من الاستيلاء على السلطة بالقوة.
وفي 28 يوليو، التقى الرئيس الصيني شي جين بينغ، بنظيره الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، في مدينة تشنغدو الصينية، وكان ذاك اللقاء هو الثاني لهما في غضون ثمانية أشهر، حيث التقى الزعيمان في قمة الصين والدول العربية في السعودية، في 9 ديسمبر 2022.
وبعد اجتماعهما، وقعت الصين اتفاقية تعاون، شملت قطاعات الزراعة وصيد الأسماك والطاقة الخضراء، ومنحت 21 مليون دولار لتخفيف عبء الديون عن موريتانيا.
وأعقب ذلك زيارة وزيرة التنمية الألمانية سفينيا شولز في 14 أغسطس إلى وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في العاصمة الموريتانية نواكشوط.
منافسة “جيوستراتيجية”
تلخص هذه الحركية ما يصفه التحليل بـ”المنافسة الجيوستراتيجية” في موريتانيا، التي تدور بالأساس “حول احتياطيات موريتانيا من الغاز الطبيعي وإمكانات الطاقة الخضراء التي توفرها تضاريسها الصحراوية الشاسعة، ناهيك عن موقعها الاستراتيجي على ساحل المحيط الأطلسي”.
وموريتانيا هي إحدى أكبر دول غرب إفريقيا وأقلها سكانا، وتتمتع باحتياطيات هائلة من الموارد (الأسماك والحديد والنفط والذهب وغيرها).
وموريتانيا في الأساس دولة صحراوية، مع مساحات شاسعة من الأراضي الرعوية و0.5٪ فقط من الأراضي الصالحة للزراعة، يبلغ عدد السكان حوالي 4.8 مليون نسمة (بحسب إحصاء سنة 2021).
ويقدر البنك الدولي ثروة موريتانيا بما يتراوح بين 50 و60 مليار دولار أميركي، وهو أقل بكثير من البلدان ذات الدخل المتوسط الأدنى.
وتشكل الموارد المتجددة نحو ثلثي الثروة الطبيعية، وتعادل مصايد الأسماك وحدها حوالي ربع الثروة الطبيعية.
ويعكس تودد الصين لموريتانيا مبادرات موازية من قبل قوى عظمى وقوى إقليمية أخرى في الشرق الأوسط.
تمتد هذه الجهود من مبادرات مكافحة الإرهاب إلى تطوير الهيدروجين الأخضر، ومن المرجح أن تتكثف إذا قررت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (ECOWAS) التدخل عسكريًا في النيجر، وفق ذات التحليل.
وعلى الرغم من تاريخها الحافل بالانقلابات واستمرار العبودية، كانت حملة مكافحة الإرهاب والتحول الديمقراطي في موريتانيا من بين قصص النجاح القليلة في منطقة الساحل.
الإرهاب والهجرة غير الشرعية
سمح قانون مكافحة الإرهاب الصادر في يوليو 2010، لوحدات متنقلة مدربة على القتال تسمى “مجموعات التدخل الخاصة” بمهاجمة ودحر المتطرفين، وكان ذلك سبباً في إضعاف المتشددين على الحدود الشمالية للبلاد.
هذا الوضع “الآمن” لحد ما، حول موريتانيا إلى ملاذ في منطقة الساحل المضطربة وجعلها في مرمى منافسات القوى الخارجية.
وعلى الرغم من انضمام موريتانيا إلى برنامج الشراكة للحوار المتوسطي التابع لحلف شمال الأطلسي في عام 1995، إلا أن سلسلة الانقلابات التي شهدتها أدت إلى تقييد التعاون مع الدول الغربية.
وبعد انقلاب أغسطس 2008 الذي أوصل سلف الغزواني، محمد ولد عبد العزيز، إلى السلطة، سارعت الولايات المتحدة وفرنسا إلى قطع جميع المساعدات غير الإنسانية عن موريتانيا.
ومع تحسن الوضع الأمني في موريتانيا وتحول نظامها السياسي إلى شبه ديمقراطي، تعززت علاقاتها مع حلف شمال الأطلسي بشكل كبير.
قام الحلف بتدريب عسكريين موريتانيين وأنشأ أربعة مراكز لإدارة الأزمات في البلاد، مما ساعد في قدرته على مكافحة التهديدات الأمنية والصحة العامة.
وفي يناير 2021، أصبح الغزواني أول رئيس موريتاني يزور مقر الناتو، حيث استقبله الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ، وخصه بترحيب حار، وفق التحليل.
ستولتنبرغ أشاد وقتها بموريتانيا ووصفها بأنها “قائدة في مجموعة الساحل الخمس” ضد الإرهاب وتعهد بتعميق التعاون الأمني على الحدود.
وأثارت دعوة موريتانيا لحضور قمة مدريد في يونيو 2022، باعتبارها شريكا من خارج الناتو، تكهنات بإمكانية إنشاء قاعدة لحلف الناتو على ساحلها الأطلسي ذو القيمة الاستراتيجية.
ويبدو أن توسيع التعاون الأمني بين الناتو وموريتانيا مدفوع أيضا برغبة الدول الأوروبية في كبح الهجرة غير الشرعية من منطقة الساحل.
وتعد موريتانيا طريق عبور شهير للمهاجرين الأفارقة الذين يسعون إلى دخول أوروبا عبر جزر الكناري.
في نوفمبر 2022، أبرمت إسبانيا اتفاقا لتقديم المساعدة اللوجستية لجهود موريتانيا لوقف المهاجرين غير الشرعيين.
يقول التقرير بالخصوص “التعليق الأخير لتعاون المفوضية الأوروبية في مجال الهجرة مع النيجر يزيد من أهمية موريتانيا في هذا المجال”.
الطاقة
مع سعي الدول الأوروبية للبحث عن موردي الطاقة البديلة، اكتسبت موريتانيا أهمية استراتيجية جديدة.
ومن المقرر أن تصبح موريتانيا مصدرا للغاز إلى أوروبا بحلول نهاية عام 2023 مع اكتمال المرحلة الأولى من مشروع تورتو أحميم الكبرى، بقيادة شركة “بريتيش بتروليوم” وشركة “كوزموس إنرجي”.
ويمكن لموريتانيا أيضا أن تصبح مركزا للطاقة المتجددة في غرب إفريقيا، حيث تتوفر على 700 ألف كيلومتر مربع من الأراضي المتاحة لبناء الألواح الشمسية وتوربينات الرياح.
وفي مارس 2023، وقعت شركة Conjuncta الألمانية لتطوير المشروعات مذكرة تفاهم مع شركة “أنفينيتي” المصرية لتوفير الطاقة وشركة “مصدر” الإماراتية لمشروع هيدروجين أخضر بقيمة 34 مليار دولار في موريتانيا.
يمكن أن يؤدي هذا المشروع إلى إنتاج ما يصل إلى 8 ملايين طن متري من الهيدروجين الأخضر سنويًا.
روسيا
بما أن موريتانيا يمكن أن تساعد في عرقلة سعي روسيا استخدام ورقة الطاقة ضد أوروبا ومنح الناتو موطئ قدم قريبا من عمليات مجموعة فاغنر في مالي، قام الكرملين بتوسيع تعاملاته مع نواكشوط.
وعلى الرغم من أن العلاقات الدبلوماسية الروسية مع موريتانيا كان يقودها تقليديًا نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، إلا أن رئيسه، سيرغي لافروف، قام بزيارة تاريخية إلى نواكشوط في فبراير 2023.
ويهدف لقاء لافروف مع الغزواني رسميا إلى تحسين ظروف عمل الصيادين الروس في المنطقة الاقتصادية الخالصة لموريتانيا، لكن لافروف عرض أيضا دعم موريتانيا في مكافحة الإرهاب في خليج غينيا.
وتنظر مجموعة فاغنر إلى غرب أفريقيا الساحلي باعتباره جبهة رئيسية للتوسع.
ومن الممكن أن تؤدي الروابط الأمنية الوثيقة بين روسيا وموريتانيا إلى تعزيز وجود مجموعة فاغنر في هذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية.
ويؤكد اقتراح لافروف بتدريب الأطباء الموريتانيين استعداده لتجاوز سجل تصويت موريتانيا المؤيد لأوكرانيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة وتعزيز القوة الناعمة لروسيا.
الصين
تعتبر استثمارات الصين في موريتانيا أكثر تكاملا مع المصالح الأوروبية، ففي ديسمبر 2016، منحت الحكومة الموريتانية عقدا بقيمة 325 مليون دولار لشركة “بولي تكنولوجيز” الصينية لتطوير ميناء ندياغو.
ويَعِدُ مشروع ندياغو بأن يكون مركزا لصادرات الطاقة إلى أوروبا ويربط موريتانيا بالسنغال، وهي دولة مستهدفة رئيسية لمشروعات الغاز الألمانية في أفريقيا.
ومع ذلك، يشعر صناع السياسات الغربيون بالقلق إزاء مزاعم الفساد التي انتشرت حول مشروع ميناء ندياجو منذ بدايته، فضلاً عن انتهاكات شركة “بولي تكنولوجيز” للعقوبات الأميركية ضد برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني.
دول الخليج
تمتد سياسة موريتانيا الخارجية متعددة الاتجاهات إلى الشرق الأوسط أيضا حيث أدى الدور الحاسم الذي لعبه الملك السعودي السابق، فيصل بن عبد العزيز آل سعود، في انتقال العديد من العلماء المسلمين الموريتانيين على مدى عقود إلى مكة، ما مكن من إنشاء أسس متينة للتعاون بين موريتانيا والسعودية.
بناء على ذلك، دعمت نواكشوط التدخل العسكري للمملكة العربية السعودية عام 2015 ضد المتمردين الحوثيين المتحالفين مع إيران في اليمن بنحو 500 جندي.
كما قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع قطر بعد الحصار الذي فرضته السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر عام 2017.
ردت السعودية الجميل بإطلاق مشاريع استثمارية، مثل قرض بقيمة 100 مليون دولار لتزويد مدينة كيفة بالمياه الصالحة للشرب من نهر السنغال، وإبرام اتفاقية تدريب عسكري مع موريتانيا في يناير 2017.
وتعهدت الإمارات بالاستثمار بقيمة 2 مليار دولار، والتي تم التوصل إليها خلال زيارة الغزواني إلى أبو ظبي في فبراير 2020، تعادل 40 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لموريتانيا وهي عنصر أساسي في مبادرة الغزواني للرعاية الاجتماعية والبنية التحتية، بعنوان “الأولويات”.
وسمح اتفاق العلا في يناير 2021، الذي أنهى الحصار المفروض على قطر، لموريتانيا بتعميق روابطها مع خصمها السابق.
وفي إبريل 2023، استحوذت شركة قطر للطاقة على حصة 40% في منطقة التنقيب البحرية C10 في موريتانيا، والتي تحتوي على احتياطيات نفطية كبيرة.
دور الوساطة مع الانقلابيين
بناء على زيارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في فبراير 2018 إلى نواكشوط وعقود من المساعدة التنموية لموريتانيا، افتتحت تركيا وموريتانيا ما يسمى “بيت التجارة” لتعزيز العلاقات التجارية في مايو 2023.
وفي حين أن سجل موريتانيا حافل بانتهاكات حقوق الإنسان والعلاقات المدنية العسكرية المتوترة، جعلا استقرارها على المدى الطويل، مسألة غير مؤكدة، إلا أنها أصبحت وجهة جذابة لاستثمار القوى الخارجية في هذه المنطقة المضطربة (الساحل) خاصة بعد انقلاب النيجر.
وتسعى موريتانيا الآن، لتكون بمثابة جسر بين المجالس العسكرية (في النيجر ومالي وبوركينافاسو) وجيرانهم، ما يتجلى في دعمها لإعادة مالي إلى مجموعة الساحل الخمس ودورها الرئيسي في خط نقل الطاقة عبر الساحل بقيمة 900 مليون دولار والذي سيمر عبر بوركينا فاسو.
ترجمة موقع قناة الحرة الأمريكية