مدار – نواكشوط، نيامي | عادت نيامي، عاصمة النيجر، بشكل متسارع إلى واجهة الأحداث إقليميا ودوليا بحر هذا الأسبوع بعد جملة من التغيرات التي حدثت تباعا، بدءا بزيارة مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الإفريقية “مولي في” للنيجر وهي ثاني مسؤول أميركي رفيع بدرجة وزير يحط في نيامي منذ استيلاء الجيش على السلطة أواخر يوليو الماضي، ثم بيان المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس” الذي اعترفت فيه لأول مرة بالإطاحة بنظام محمد بازوم.
منذ اللحظة الأولى لتحشيد مجموعة الإيكواس وعقدها اجتماعات رفيعة المستوى من أجل طرح جميع الخيارات بما في ذلك التدخل العسكري سبيلا لاستعادة النظام الدستوري في النيجر، ظهر أن الولايات المتحدة كانت الكابح في وجه القيام بأي عمل عسكري، عكس فرنسا المتهم الأول بتشجيع التدخل العسكري كما تعتقد أطراف عديدة في الإقليم بينها المجلس العسكري بنيامي.
في أول أسبوع بعد إعلان الإطاحة ببازوم حطت بنيامي طائرة باربارا ليف أبرز نائبة لوزير الخارجية الأميركي، ثم تابعت واشنطن بشكل يومي في مواجيزها الصحفية على صعيدي الخارجية والبيت الأبيض مسار الأحداث في النيجر. غير أن ليف وبعد عودتها من نيامي قالت إن شخصيات من المجلس العسكري لم يسمحوا لها بلقاء عبد الرحمن تياني (تشياني) ووجهوا لها الحديث بأن أي نقاش بخصوص الأزمة القائمة يجب أن يكون معهم.
وتعاظم القلق في منطقة الساحل وغرب إفريقيا من تصاعد الخطاب شديد النقمة على النفوذ الغربي عموما والفرنسي على وجه الخصوص، وباستثناء موريتانيا، شهدت جميع دول الساحل الباقية مظاهرات جماهيرية حاشدة تطالب بطرد باريس ومواليها من واجهة الحياة العامة، وتحملها مسؤولية الفقر وانعدام التنمية والتمكين للأنظمة الفاسدة في إفريقيا عموما والساحل بشكل أخص.
مع هبوب هذه الرياح وجدت ثلاثة انقلابات على الأقل في المنطقة خلال السنوات الثلاث الماضيات، وجدت دعما متفاوتا من روسيا التي تتسابق مع كل من حليفتها بكين، وغريمها الغرب على موطئ قدم في أقرب النقاط الممكنة إلى الغاز الإفريقي الذي يسعى لأن يكون بديلا لأهم مورد مالي لدى موسكو.
ما تريده واشنطن
يقول جون ماكمالبرغ محلل الشؤون الإفريقية في مركز ويست الأمريكي إن الولايات المتحدة ليست مهتمة بموارد الطاقة أو حتى السباق مع روسيا في الساحل قدر اهتمامها بتحطيم الصورة التي بدأت تروج في غرب إفريقيا بأن أي انقلاب مرفوض لا يحتاج أكثر من قوة نقيضة من الشرق لدعمه، وعند أدوار السياسة هذه تحجم بكين التي تركز على إبرام الاتفاقات التجارية ومسايرة أي نظام إفريقي، بينما لدى موسكو وجهة نظر سياسية في دعمها وفي سبيل ذلك أنشأت مجموعة فاغنر العسكرية غير النظامية حتى تكون ظهيرا تفعل يداه ما لا يمكن للجيش الروسي فعله علانية.
ماكلمالبرغ يعتقد أن السياسة الأميركية الحالية مقيدة بالحرج الأميركي من باريس بالدخول في منطقة نفوذها وما تعتبره حدائق خلفية لها استثمرت فيها سنوات من الاستعمار وتبعات بناء أنظمة سياسية بحاجة دائمة إلى المساعدة، خاصة أن باريس سبق وبلغت أقصى درجات النفور من واشنطن والتعبير عن الغضب من دخولها على خط المصالح الفرنسية لدرجة وصف التصرفات الأميركية بالطعن في الظهر عندما وقعت استراليا اتفاقية بناء غواصات تعمل بالدفع النووي ما أدى لإلغاء كانبيرا اتفاقا لبناء غواصات تقليدية مع فرنسا.
وتملك واشنطن أكبر قاعدة للطائرات العسكرية المسيرة “بيدياتور” في مطار نيامي، وبنت بنفسها قاعدة عسكرية ضخمة عدة وعتادا في محيط أغاديز إلى الشمال من النيجر وفي أقرب النقاط المأهولة من مثلث الحدود الجزائرية النيجرية الليبية المالية، وتتبع كل هذه القوات لقيادة إفريقيا في الجيش الأميركي بقوام من الجند يقدر بأكثر من ألفي جندي، وهو عدد يفوق عديد القوات الأميركية الموجودة في سوريا اليوم.
في اليد الأخرى يوافق الخطاب الروسي الهوى الشعبي في غرب القارة ووسطها، فهو يمنح المساحة الكافية لكل نظام ودولة إفريقية لتقرر الشكل السياسي الواجب اتخاذه، ولا يرفع سلاح العقوبات في وجه مخالفيه سياسيا في المنطقة، ويبحث أكثر عن فرصة تعزيز أي سلطة جديدة أو قائمة من قبل ما دامت لجأت إلى روسيا، ويتفاضل الحماس الروسي والاندفاع حسب قيمة الدولة وموقعها والمصالح الروسية فيها.
وإذ يغشى ضباب الشتاء الروسي غرب إفريقيا، تتدافع المحاولات الانقلابية تباعا في كل من غينيا بيساو وسيراليون وهما دولتان من خلفية سياسية مغايرة للمحيط النافر من فرنسا، إذ استقلت بيساو عن البرتغال متأخرة في منتصف السبعينيات من القرن الماضي بينما استقلت فريتاون عن التاج البريطاني 1964في أوج قطف ثمار حركات التحرر في إفريقيا. هذا المؤشر يدفع أكثر باتجاه صعوبة المرحلة المقبلة في غرب القارة الغني بالغاز، وفاقد الإيمان بالغرب
The protection of human rights and fundamental freedoms is an integral part of a security strategy. We call on the Transition Authorities to strengthen these protections as they will contribute to justice and overall peace and security in Burkina Faso. https://t.co/Fz07HBqHBe
— Bureau of African Affairs (@AsstSecStateAF) ١٢ ديسمبر ٢٠٢٣
إيكواس تسائل نفسها..
تجربة الدخول العسكري من حدود السنغال التي تحيط غامبيا من كل يابسة مطلع 2017 كانت مشجعة للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس” (تعرف بسيدياو أيضا كاختصار بالفرنسية)، مشجعة لها للمضي قدما في طرح الفكرة بجدية أكثر في حالة النيجر، غير أن عوامل كثيرة بينها رفض الولايات المتحدة التدخل وعزوف دول الإقليم عنه، ثم التضامن الذي أظهرته بوركينافاسو ومالي مع النيجر لدرجة نقل معدات عسكرية وقطع جوية إلى المطارات النيجرية، ثم الضغط الاجتماعي عند الحدود المتداخلة مع نيجيريا قبليا، كل تلك العوامل أجلت ثم حجمت القدرة على القيام بأي تدخل عسكري، يضاف إلى ذلك جملة التطورات الدولية والإقليمية التي صرفت انتباه الإقليم وتركيزه عن مسألة النيجر بما في ذلك الكوارث الطبيعية التي تتابعت في المغرب وليبيا.
ووفق مراقبين فإن اعتراف الإيكواس بالإطاحة بنظام محمد بازوم لا يعدو كونه إقرار بالأمر الواقع، فقد عاد لتوه الأمين زين، الوزير الأول المعين من المجلس العسكري إلى النيجر، بعد أن مثل رسميا سلطته لدى القمة الإفريقية الإسلامية في السعودية في العاشر من نوفمبر الماضي كتفا بكتف إلى جانب أشد قادة إيكواس رفضا للانقلاب. لذا فحالة النيجر وعجز إيكواس، المجموعة الأكثر حضورا في غرب القارة (أكثر من الاتحاد الافريقي) عن مجابهة ثالث انقلاب فيها، وقفز كل من باماكو ونيامي وواغادوغو من مركب تجمع دول الساحل وتشكيلهم حلفا ثلاثيا، كل تلك العوامل موجبة لعدوى وباء البيان رقم واحد في منطقة الغرب الإفريقي.
وكان الخبير في الشأن الإفريقي محفوظ السالك، قد اعتبر في زاويته الأسبوعية “إفريقيا بين قوسين” على موقع وكالة مدار، أن عجز إكواس عن مواجهة الانقلاب في النيجر جاء بعد فشل المجموعة في مواجهة الانقلاب في مالي، “التي أجل المجلس العسكري الحاكم فيها موعد الانتخابات الرئاسية، دون تحديد موعد جديد لها، وفي بوركينا فاسو وغينيا كوناكري، اللتان لم تقطعا بعد خطوات كبيرة بشأن المسار المتفق عليه مع المجلسين العسكريين الحاكمين بهما”.
هذا العجز في مواجهة الأمر الواقع في الدول الثلاث، يرى السالك أنه “شجع على حدوث محاولتين انقلابيتين مؤخرا بغينيا بيساو وسيراليون، وربما تحصل محاولات أو انقلابات في دول أخرى لاحقة، مادامت “سيدياو” تكتفي بالتهديد، والتنديد، وفرض عقوبات وقعها على المحكومين أكبر من الانقلابيين الحاكمين بالقوة، ثم تستسلم وتفاوض على فترة انتقالية، تكون في الغالب 3 سنوات أو أكثر، إما بشكل مباشر أو غير مباشر”.
مآلات الأوضاع في النيجر
في مقال تحليل نشرته مجلة قراءات إفريقية المتخصصة في قضايا القارة السمراء اعتبرت فيه أن قمة العاشر من ديسمبر التي عقدتها إكواس في أبوجا “قدّمت فرصة بالغة الأهمية للوساطة في الأزمة المالية في النيجر. وهذا الافتقار إلى اتفاق سياسي طويل الأمد ينطوي على مخاطر عديدة؛ فهو يهدد أولًا بزيادة زعزعة الاستقرار في النيجر، وقد زادت عدد الهجمات نسبيًّا على قوات الأمن؛ حيث قُتل 29 و130 شخصًا في 3 أكتوبر و15 نوفمبر على التوالي. ومن العوامل التي تسهم في هذا الاتجاه إعداد نيامي وحدات مقاتلة للضغط على دول المجموعة لمنع التدخل العسكري المحتمل”.
وأشارت المجلة إلى أن الوضع السياسي الداخلي في النيجر يتسم باضطراب، حيث قامت السلطات بحملة اعتقالات ذات طابع سياسي، مع انخفاض مستمر في مستوى الحريات المدنية، بما في ذلك حظر أيّ مظاهر دعم للرئيس بازوم. وقد تتفاقم هذه التوترات السياسية نتيجة تداعيات العقوبات المفروضة على النيجر وآثارها الاجتماعية على تكاليف المعيشة والاقتصاد الوطني.
وتتجه مآلات الوضع في النيجر إلى سيناريوهين لا يزالان منفتحين للوساطة؛ وهما: الانتقال الدستوري الذي يقوده رئيس الجمعية الوطنية على غرار الانتقال من مالي عام 2012م، إلى كانكوندا تراوري، أو الانتقال الذي يقوده شخص مدني توافقي على نموذج الانتقال في بوركينا فاسو مع ميشيل كافاندو في عام 2014.
تتقاطع رغبة إيكواس وشروط واشنطن في اشتراط المظاهر التقليدية لكل انقلاب إفريقي، فترة انتقالية وعودة للنظام الدستوري، لكن كيف ومتى، هنا تكمن التفاصيل التي تحتاج أكثر من مجرد التلويح بعقوبات بلغت حدها الأقصى في الفترة الماضية، ثم في مقابل ذلك أي عقبة أمام ضباط أي دولة أخرى في أخذ نفس المسار إذا كانت نتيجته حتمية بعد أشهر؟