على مدى يومين احتضنت منطقة “سيريوس” الفيدرالية قرب مدينة “سوتشي” الروسية أعمال مؤتمر للشراكة الروسية الإفريقية، شكل فرصة جديدة لتأكيد اهتمام موسكو بإفريقيا، وتعزيز الشراكة معها انسجاما مع عودتها للقارة قبل سنوات، مستغلة سياق موجة الانقلابات العسكرية، التي شكلت بداية لتراجع اهتمام القارة السمراء بفرنسا والغرب بشكل عام، خصم روسيا الرئيسي في حربها ضد أوكرانيا.
وقد شكل المؤتمر الذي عرف مشاركة وزراء خارجية 40 دولة إفريقية، مناسبة للتوقيع على عديد اتفاقيات التعاون بين الطرفين الروسي والإفريقي، وتمرير رسائل مباشرة للغرب باعتباره “يستغل” و”يستعمر”، بينما الشراكة الروسية هي “الأجدى” و”الأنجع” لإفريقيا.
ويشكل مؤتمر “سيربوس” استمرارا لقمم سابقة بين روسيا وإفريقيا، ففي صيف عام 2023 احتضنت سان بطرسبرغ ثاني قمة روسية إفريقية، أعلن خلالها الرئيس فلاديمير بوتين إطلاق برنامج مساعدات للرعاية الصحية بقيمة 1.2 مليار روبل لبلدان إفريقيا.
وتعهد الجانبان الروسي والإفريقي بتعزيز الشراكة خصوصا في مجالات التجارة، والأمن، والغذاء، والتكنولوجيا، كما اعتمدا خطة عمل مشتركة حتى عام 2026.
وقبل سان بطرسبرغ، استضافت مدينة سوتشي أواخر اكتوبر 2019 القمة الأولى بين روسيا وإفريقيا تحت شعار: “من أجل السلام والأمن والتنمية”، حضرها 45 رئيس دولة، ومثلت فيها بلدان إفريقية أخرى من طرف رؤساء حكومات ووزراء.
وتم خلال هذه القمة التي أسست للعودة الروسية الجديدة لإفريقيا، توقيع 92 اتفاقية ومذكرة تفاهم، بحجم مالي إجمالي فاق تريليون روبل.
تنضاف إلى ذلك الزيارات المكثفة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال السنوات الأخيرة للعديد من الدول الإفريقية، والتوقيع خلالها على العديد من اتفاقيات التعاون.
وإذا كان مؤتمر “سيريوس” يشكل امتدادا للبعد الدبلوماسي في العلاقات الروسية الإفريقية، فإنه من جانب آخر يأتي في سياق دولي لافت يتمثل في انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والاستعداد لتسلم مهامه رسميا في 20 يناير 2025.
وفيما لم يعرف بعد ما إذا كانت عودة ترامب الجديدة للبيت الأبيض ستختلف عن وصوله السلطة عام 2017، فيما يتعلق بالرؤية والتوجه نحو القارة الإفريقية، فإن روسيا أرادت استباق ذلك، والتأكيد على استمرار مسار تعزيز علاقاتها مع إفريقيا، وإعطائه بعدا استراتيجيا.
ويشكل الأفق الضبابي لمستقبل الحرب الروسية الأوكرانية، في ظل الاصطفاف الغربي إلى جانب كييف، والتمويل الأمريكي السخي لها بالمال والسلاح، حافزا لروسيا على الاستمرا في تعزيز علاقاتها بإفريقيا كمتنفس جديد، ووجهة مغرية اقتصاديا وتجاريا يتسابق العالم عليها بشكل حثيث.
ولكن إفريقيا وبغض النظر عن طبيعة الاهتمام الأمريكي بها، وما إذا كان سيختلف في العهدة الجديدة لترامب الجمهوري عنها في عهد بايدن الديمقراطي، الذي استضاف قمة مع القارة، وكثفت الدبلوماسية الأمريكية تحركها إفريقيا في عهده، فإن من مصلحتها المضي في خيار تنويع وتعدد الشركاء، وإبداء المزيد من الانفتاح في هذا التوجه.
ولكن ذلك لا ينبغي بالمقابل أن يكون على حساب القارة ومصالحها، وإنما يجب أن يكون متوازنا لا غابن فيه ولا مغبون، وهو ما سيتيح لها استفادة أكبر وخيارات أوسع، فالعالم يتسابق عليها باعتبارها قارة المستقبل، نتيجة للموارد الكثيرة التي تزخر بها.
إن التنافس العالمي المتزايد على إفريقيا، يجعلها في مركز قوة، وهو ما ينبغي أن يعزز مبدأ أخذها زمام أمورها بنفسها، دون أي إملاء أو تدخل في شؤونها الداخلية بشكل مباشر أو غير مباشر.
وفي هذا السياق فإن تبني المؤسسات الإفريقية الرسمية مبدأ الحياد إزاء الحرب الروسية الأوكرانية، وتوجهها بدلا من الاصطفاف نحو لعب دور الوساطة، يعتبر خيارا صائبا وواقعيا كذلك، وتحتاج دول القارة إلى تبنيه ضمانا للمصلحة، واحتراما لمبدأ السيادة.