تعتبر شهادة الباكالوريا مرحلة حاسمة في المسار العلمي للشباب الموريتاني، حيث تشكل منعطفا حاسما في مسيرة التلاميذ تخول لهم دخول مرحلة التعليم الجامعي، والذي بدوره يفضي بداية مسار مهني جديد.
الباكالوريا.. العقبة الحاسمة
ومنذ أصبحت الباكالوريا إحدى أهم المراحل التعليمية في موريتانيا قبل أربعة عقود تقريبا، شكلت هذه الشهادة منعطفا حاسما وعقدة لدى الكثيرين، إذ كانت تسمح لحاملها دخول مسار التعليم العالي وتعد أرفع درجة دراسية تساهم في الولوج للوظيفة العمومية والتقدم لعشرات الفرص في مجالات عدة.
ومع أن إصلاح النظام التعليمي في موريتانيا الذي يعاني بعض الاختلالات بحكم وجود جيلين متبايين عربي وفرنسي، شكل ورقة سياسية ضاغطة خلال الحقب الماضية، إلى أنه لم ينزع من الباكالوريا قداستها فظلت الشهادة التي يحيطها الموريتانيون بهالة كبيرة، وتعتبر البوابة نحو التعليم العالي بالبلد.
مسار إصلاح النظام التعليمي
مرت موريتانيا بمحطات حاسمة ومهمة من أجل إرساء تعليم عصري يراعي خصوصية البلد الثقافية ويأخذ من المعارف المعاصرة ما يجعل الإنسان الموريتاني قادرا على مواكبة الحياة بل التميز والعطاء.
وظلت الأنظمة المتعاقبة رغم تباين مواقفها مشغولة بالبحث عن سبيل لتحقيق نظام تعليمي يحقق الأهداف المطلوبة، فمنذ الاستقلال ومحاولات إصلاح النظام التربوي متواصلة، أو هكذا ادعت الحكومات المتعاقبة على حكم البلد.
ومر إصلاح النظام التعليمي في موريتانيا بعدة مراحل، أبرزها إصلاح 1979 الذي أحدث نظامين تعليميين متمايزين عربي فرنسي، وإصلاح 1999.
وحاول إصلاح 99 توحيد النظام التعليمي والقضاء على الازدواجية بين النظامين، كما تضمن هذا الإصلاح تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية، في خطوة مازالت تثير الجدل حتى اليوم.
إشكالات صاحبت الإصلاحات
وأثارت هذه الإصلاحات إشكالات عديدة، إذ يعتمد نظام الباكالوريا في موريتانيا على عدة شعب وهي الشعب العلمية والأدبية، قبل أن تضاف إليه مؤخرا شعبة الآداب الأصلية لفتح المجال أمام طلبة المحاظر للمشاركة في هذه المسابقة.
ويعد تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية، أحد أكثر الإشكالات التي اعترضت طريق إصلاح 1999 جدلا، حيث يرى العديد من المهتمين بالمجال التربوي أن عدم تدريس هذه المواد باللغة العربية هو السبب الرئيسي في تدني النسبة النجاح في هذه المسابقات.
الباكالوريا.. صعوبة الطرح ؟!
ويرى المفتش والمهتم بالشأن التربوي الأستاذ ممو الخراش، أن امتحانات البكالوريا في موريتانيا أصعب بالفعل من نظيراتها في دول الجوار، مؤكدا أنه الباكالوريا الأدبية مثلا كانت موريتانيا آخر بلد في المنطقة يتخلى عن المقالات الإشكالية وبالكاد اعتمدنا المقالات التحليلية، والمقال التحليلي بطبيعته غير صعيب.
وقال ولد الخراش في تصريح خاص لوكالة “مدار”، إنه يدعم تسهيل امتحانات الباكالوريا وإن كان يدرك أن مايحدث منه الآن هدفه التمييع للتغطية على النواقص وهو مقصد سياسي أكثر مما هو تربوي، بحسب قوله.
ويرى المفتش أنه منذ العام الماضي تبنت الدولة توجها جديدا هدفه رفع نسبة النجاح في الباكالوريا، لأنها تدرك أن كل العلاجات الترقيعية التي اعتمدت طوال السنوات الماضية لم تستطع إصلاح التعليم.
إشكالات عميقة تحول دون الإصلاح
ويعتقد ولد الخراش، أن التعليم يعاني من إشكالين يحولان دون تطويره، وهما إشكال اللغة والإشكال الناتج عن وضعية المدرسين التي لاتسمح أن يكون التعليم بيئة جاذبة للمتميزين.
وبخصوص الهالة التي تحظى بها مسابقة الباكالوريا دون غيرها، قال المفتش إن خطأ الباكالوريا الكبير هو غياب مراعاة المعدل التراكمي، إذ يحاول تحديد مستوى التلميذ عبر امتحان واحد !.
الشعبة الأصلية.. ملاذ للهاربين!
واعتبر ولد الخراش في حديثه لمدار، أن إنشاء شعبة الآداب الأصلية في الأصل جاء في إطار الإصلاحات المتعلقة بالهوية الثقافية والدينية والتي بدأت منذ فترة حكم الرئيس الأسبق المختار ولد داداه، وقد أنشأت بهدف استيعاب طلاب المحاظر.
ويضيف ولد الخراش: “لكنها مؤخرا أصبحت ملاذا للهاربين من جحيم الفرنسية في الشعب الأخرى، لذلك أغلب المترشحين من هذه الشعب مروا بمستويات التعليم ماقبل الباكالوريا ولكن عقبة الفرنسية حالت بينهم مع المواصلة في الشعب العلمية وشعبة الآداب العصرية”.
إدراج شعبة الآداب.. إنصاف لأبناء المحظرة
أما المكون بمدارس تكوين المعلمين والمهتم بالمجال التربوي كليم الله أحمدي، فقد أكد في حديثه مع “مدار” ، أن الباكالوريا في موريتانيا تحولت عبر العقود لتواكب تطور البنية التعليمية والاجتماعية.
وأضاف أن من أبرز هذه التحولات إدراج شعبة “الآداب الأصلية”، وهي خطوة مهمة جاءت استجابة لخصوصية المجتمع الموريتاني، وخاصة لفئة طلاب المحاظر الذين يتميزون بتكوين تقليدي في العلوم الشرعية واللغة العربية.
وأكد كليم الله أن العقود الأولى بعد الاستقلال، كان النظام التعليمي مستنسخا إلى حد كبير من النموذج الفرنسي، ولم يكن يأخذ بعين الاعتبار الطبيعة الثقافية والدينية الخاصة بالبلاد، مشددا على هذا التوجه همّش طلاب المحاظر، الذين كانوا يتلقّون تعليما أساسا في الفقه، واللغة، والقرآن، ولكنهم يجدون صعوبة في التأقلم مع شعب البكالوريا ذات الطابع الفرنسي والعلمي أو الأدبي العصري، فظهر دعوات لإدماج مخرجات المحاظر في المنظومة التعليمية الحديثة، وبناء على ذلك تقرر استحداث شعبة خاصة ضمن امتحان البكالوريا سُميت بـشعبة الآداب الأصلية.
شعبة عصرية بملامح محظرية
وقال كليم الله أحمدي إن شعبة الآداب الأصلية المستحدثة استندت إلى مواد مثل: الفقه، النحو، التفسير، الحديث، الأدب العربي، والفكر الإسلامي، وهي مواد تتماشى مع خلفية طلاب المحاظر، وتهدف إلى:
دمج خريجي المحاظر في التعليم النظامي والجامعات، بحسب قوله.
واعتبر المكون المهتم بالمجال التربوي، أن هذه الخطوة تدخل في إطار محاربة الإقصاء التعليمي من خلال الاعتراف بالمسارات التعليمية التقليدية، والحفاظ على الهوية الثقافية الإسلامية وتعزيز حضورها في المنظومة الوطنية.
وتابع قائلا: “لقد سمحت هذه الشعبة للآلاف من طلاب المحاظر بولوج الجامعات، وساهمت في خلق نخبة علمية تجمع بين التكوين التقليدي والأكاديمي، وكان لها دور بارز في مجالي القضاء والتعليم العالي”.