spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

تجديد علم الكلام من منظور فلسفات التأويل والعلوم الإنسانية المعاصرة

يسود في الساحة الثقافية العربية موقف سلبي واسعا من علم الكلام، تلتقي فيه تيارات واتجاهات من مشارب شتى.

 

فالفلاسفة منذ العصر الإسلامي الوسيط يعزفون عن المبحث الكلامي، ويرونه عديم الجدوى، ضعيف القاعدة النظرية، فهو مبحث “جدلي”، “خطابي” يعوض لدى العامة النقص في الملكات البرهانية. وأخطر ما في علم الكلام بالنسبة للفلاسفة هو أنه وإن تعلق بالإلهيات، إلا أنه يقحم نظره في المسائل التي يحتكرها الفلاسفة لأنفسهم كالعالم والنفس والجوهر والأعراض…

 

فالإشكالية التي تطرحها المنزلة الإبستمولوجية لعلم الكلام هو أنه علم على خط الفصل بين الدين والحكمة، ولذا كان لابد أن يصطدم بالفلسفة، على نحو ما يبينه “ابن رشد” بقوله:

 

“فصار الناس بسبب هذا التشويش والتخليط فرقتين: فرقة انتدبت لذم الحكماء والحكمة، وفرقة انتدبت لتأويل الشرع وروم صرفه إلى الحكمة. وهذا كله خطأ، بل ينبغي أن يقر الشرع على ظاهره ولا يصرح به للجمهور؛ لأن التصريح بذلك هو تصريح بنتائج الحكمة لهم، دون أن يكون عندهم برهانا عليها… وأما إخلاله بالشريعة فمن جهة إفصاحه فيه بالتأويل الذي لا يجب الإفصاح به. وأما إخلاله بالحكمة فلإفصاحه أيضا بمعان فيها، لا يجب أن يصرح بها إلا في كتب البرهان[1].”

 

وعلى الرغم مما ظهر من بعض المشتغلين العرب المعاصرين بالفلسفة من إعادة اعتبار لعلم الكلام كعلي سامي النشار[2] سابقا وطه عبد الرحمن[3] وأبي يعرب المرزوقي في أيامنا[4]، فإن الصورة السلبية عن المباحث الكلامية لم تتغير نوعيا.

 

أما المختصون في الدراسات الشرعية فقد سيطرت عليهم في السنوات الأخيرة النظرة السلفية الموروثة عن قدماء الحنابلة المعروفين برفضهم الشديد للمباحث الكلامية وما تقوم عليه من تأويل في أمور العقيدة؛ فالدراسات الكلامية انهارت في اغلب الجامعات الإسلامية، وبعضها تحجم عن تدريسها تعللا بما تحدثه من “تشويش” على عقائد الناس.

 

والتيارات الإسلامية السياسية تعادي المباحث الكلامية، وترى فيها مجرد “ترف فكري” متأثر بالفلسفات والنظريات المستوردة، متجهة إلى إعطاء مفهوم “التوحيد” دلالة نضالية ملتزمة، كما هو المسلك الذي اعتمده سيد قطب في كتابه خصائص التصور الإسلامي ومقوماته[5].

 

ومن الجلي أن الخطاب الإسلامي المعاصر استبدل منذ مطلع الستينيات مباحث الكلام بأدبيات الإعجاز العلمي التي اعتبرها اقدر على الدفاع عن الدين والعقيدة، وقد بدا الهندي وحيد الدين خان هذا النهج في كتابه الإسلام يتحدى[6].

 

بل إن المبحث الكلامي ظل الجانب الأضعف في حقل الدراسات الأكاديمية في عالمنا العربي. فبعد المحاولات الأولى التي قام بها احمد أمين[7] وعبد الرحمن بدوي[8] وسامي النشار… ضعف الاهتمام بعلم الكلام، ولم يتجدد الاهتمام به إلا في الثمانينات على يد محمد عابد الجابري[9] وحسن حنفي[10] في سياق مشروعيهما الإصلاحي، ولذا فإن هذا الاهتمام كان داخلا في مشروع أوسع لقراءة التراث وإعادة امتلاكه، وليس لأسباب علمية محضة.

 

والغريب في الأمر، أن الدراسات الكلامية –على عكس ما هو الحال في العالم العربي- أثارت اهتماما واسعا في الجامعات الغربية. فأهم ما كتب في تاريخ الفرق الإسلامية والمذاهب الكلامية في السنوات الأخيرة صدر باسم أساتذة غربيين  بارزين مضراب الألمانيين “ولفريد مادلونغ[11]” و”جوزف فان اس[12]” والإنجليزي  “مايكل كوك[13]” والفرنسي  “دانيل  جيماريه[14]“.

 

وقد تحسنت الصورة جزئيا في السنوات القليلة الماضية، نتيجة لبروز مدرستين أكاديميتين متميزتين في المغرب وتونس، أعطتا اهتماما غير مسبوق للمباحث الكلامية من منظور المناهج الإنسانية وفلسفات التأويل المعاصرة.

 

ففي المغرب ظهرت أعمال علمية رصينة في تاريخ وبنيات الخطاب الكلامي كدراسة سعيد بنسعيد العلوي الرائدة حول الأشعرية[15]، في الوقت الذي بلور “طه عبد الرحمن” خطا منهجيا لدراسة المنهج الكلامي من منظور منطق الحجاج والمناظرة الحديث[16].

 

وفي تونس، برزت أعمال “أبو يعرب المرزوقي” التي قدم فيها مقاربة لجديدة للمباحث الكلامية (تعضدها ثقافة فلسفية استثنائية) انتصر فيها علميا للعقل الكلامي في مقابل الفلاسفة المتأثرين بالمعقول اليوناني[17]، في الوقت الذي نوقش في الجامعة التونسية عدد هام من الرسائل المتميزة تناولت إشكالات ومواضيع شتى من المبحث الكلامي، برزت من بينها أطروحة “محمد بوهلال” الرائدة حول الغزالي[18]، التي شفعها بأعمال أخرى لا تقل عنها أهمية.

 

هل يعكس هذا التطور الايجابي في المبحث الأكاديمي إعادة النظر في الموقف السلبي الرائج من علم الكلام؟

 

يتعين بداية الإقرار إجابة على هذا السؤال إن هذه الدراسات لم تؤثر تأثيرا يذكر لا في حقل الدراسات الشرعية ولا في التيارات الإسلامية السياسية. فلا تزال محاولات تجديد علم الكلام محدودة، ضعيفة الفاعلية. وللتذكير، نشير إلى أن المحاولة المعاصرة الأولى لتجديد الكلام تمت في نهاية القرن التاسع عشر على يد الإمام محمد عبده الذي أراد في كتابه “رسالة التوحيد[19]” إعطاء معان جديدة للتوحيد والعدل مع البقاء في الحيز الكلامي الوسيط. وفي ثلاثينيات القرن الماضي، ظهرت محاولة “محمد إقبال[20]” التي قدمت تصورات جديدة لبنية المنظور الكلامي لم يكتب لها أي تأثير.

 

وفي الفترة الراهنة، ظهرت محاولة “حسن حنفي” إعادة بناء علوم العقيدة في عمله الموسوعي الجدلي “من العقيدة إلى الثورة” ذهب فيه إلى محاولة بناء “لاهوت تحرير” إسلامي على غرار “لاهوت التحرير” المسيحي الذي عرفته أمريكا اللاتينية بتأثير من الاتجاهات اليسارية. ولم ترض محاولة حنفي الأكاديميين لما طبعها من سمة نضالية طاغية، في الوقت الذي أثارت نقمة واسعة في أوساط التيارات الإسلامية ذهبت حد التكفير.

 

ولعل أهم محاولة تمت لتجديد المباحث الكلامية هي مدرسة “الكلام الجديد” الإيرانية التي ظهرت لدى علماء وباحثين مرموقين من نوع “عبد الكريم سروش” و”مصطفى ملكيان” و”مجتهد سيشتري[21]“، وقد أصبح لها بالفعل  تأثير واسع في الحوزات والجامعات  وفي حركية الإصلاح التي يكثر الحديث عنها حاليا.

 

إذا كانت الحصيلة -كما ظهر لنا- هزيلة في عالمنا العربي فهل تجديد الكلام هدف مطلوب علميا وإصلاحيا، أم هو ترف فكري لا حاجة  إليه  وطموح لا طائل يرجى منه؟

 

لابد من التمييز هنا بين “الكلام الجديد” وبعض الأطروحات السائدة في أعمال من يطلق عليهم “مفكري الإسلام الجدد[22]” الذين برزوا أساسا في سياق المدرسة الأركونية.

 

فلم يفتأ “محمد أركون” منذ عقود يدعو إلى استبدال “الإسلاميات الأرثوذكسية” بمنهج جديد أطلق عليه تارة مقولة “الإسلاميات المطبقة”، وتارة أخرى “نقد العقل الإسلامي”. وعلى الرغم من اختلاف السياق النظري للمقولتين، فإن “أركون” يرادف بين العبارتين، اللتين يعني بهما تطبيق مناهج العلوم الإنسانية على النص الديني والمدونة التراثية المتفرعة منه[23].

 

ومن أبرز من تابع أركون في هذا المنحى الكاتب التونسي “عبد الوهاب المؤدب” المقيم في باريس، حيث يدرس في الجامعة ويقدم برنامجا حول الإسلام في القناة الثقافية الإذاعية المتخصصة. أصدر الرجل بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 كتابا بعنوان “مرض الإسلام[24]” (ترجم إلى العربية بعنوان آخر). وقد أصدر كتابا جديدا بالفرنسية يحمل عنوان “الخروج من اللعنة[25]” ادعى فيه تقديم وصفة العلاج من “المرض” الذي يعاني منه الإسلام الذي هو حسب عبارته الجمود والتعصب والعنف والانغلاق.

 

وقد اعتبر مؤدب أن المدخل لإصلاح اختلالات الثقافة الإسلامية هو “تحطيم صنمية القرآن” الذي ينظر إليه عموم المسلمين بصفته كلام الله المباشر، مما يحول بينهم مع إخضاعه للنظرة النقدية الصارمة والتحليل التاريخي النسبي على غرار ما حدث بالنسبة للنصوص المقدسة اليهودية والمسيحية.

 

ويذهب مؤدب إلى المطالبة بإعادة الاعتبار لموقف المعتزلة القائل بخلق القرآن الذي رأى أنه يفتح الطريق أمام نزع القداسة عن الكتاب الكريم، الذي يصبح نصا موحى إلهيا عبر وساطة بشرية.

 

لقد أصبحت هذه الأطروحة مرتكز مشروع “إصلاحي” شامل لأوضاع المسلمين لدى قطاع واسع من الكتاب الذين طرحوا فكرة “إسلام أنوار” مقابل “الإسلام الأصولي المتطرف”. ويمكن أن نذكر من هؤلاء الذين خرجوا في الغالب من العباءة الأركونية عبد المجيد الشرفي ومالك شبل ورشيد بنزين… (أغلبهم أصدر أعماله باللغات الأوروبية وخصوصا الفرنسية).

 

وإذا كان توظيف الاعتزال كمدرسة عقلانية ليس بالجديد في الفكر العربي المعاصر، فإن التركيز على القول  بخلق القرآن من منظور كونه يسمح برفع غطاء القداسة عن النص المقدس ينم عن قراءة مغلوطة وتوظيف سطحي وغير مبرر لموقف كلامي في سياقات إيديولوجية آنية لا علاقة له به. وسواء تبنينا القول الاعتزالي أو الرؤية الأشعرية التي تفصل بين الكلام النفسي القديم وبين الكلام اللفظي الحادث (كما هو واضح لدى الجويني)، فإن تطبيق المناهج التأويلية والمقاربات العلمية على النص القرآني لم يكن أبدا محظورا في الإسلام قديما أو حديثا، سواء تعلق الأمر بعلوم البيان والبلاغة والنحو سابقا أو بالعلوم الإنسانية المعاصرة؛ إذ الأمر لا يتعلق بالنص في ذاته وإنما بالأفهام البشرية له غير المقدسة.

 

أما الدراسات النقدية فقد  بدأت في الفيلولوجيا الاستشراقية القديمة (كتيودور نولدكة في تاريخه للقرآن) ووصلت مداها لدى تيار المراجعين الجدد “من أبرزهم مايكل كوك وباتريسيا كرون وكريستوف لكسمونبرغ[26]“، ولم تتجاوز هذه الأعمال حد الافتراضات الاستشراقية القديمة ولو أضيفت إليها نكهة تفكيكية براقة لم تزدها رصانة ودقة كما يقر أهل الاختصاص المتعمقين.

 

وحاصل الأمر أن المشروع الإصلاحي المرتقب لن يتحقق بالرجوع إلى الإشكالات الكلامية القديمة، أو عن طريق تطبيقات العلوم الإنسانية التي لم يعد ينظر إليها كمناهج يقينية موضوعية على غرار العلوم التجريبية، بل هي معارف تأويلية يمتزج فيها الدارس بالظاهرة المدروسة و الذات بالموضوع.

 

وغني عن البيان أن الشرط الأول للتصدر للإصلاح المنشود هو أن يكون من الأرضية الداخلية، حتى لو كان من المشروع توظيف المفاهيم والنظريات الحديثة في تجديد الهوية السردية للمسلمين (حسب عبارة ريكور). ولدينا أمثلة على محاولات من هذا النوع كمحاولات العالم والفيلسوف الباكستاني فضل الرحمن والمفكر الإيراني المتمرد عبد الكريم سروش والفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، بغض النظر عن مدى قبولنا لأفكارهم التي تعبر عن نفس تجديدي أصيل وجريء.

 

إن تحويل ساحة المعركة إلى القرآن الكريم رهان خاسر دينيا ومعرفيا وإستراتيجيا، فالمناهج التفكيكية لا قدرة لها على تقويض الثقة الإيمانية التي اعتبرها رائد التفكيكية جاك دريدا مرتكز المعقولية وخلفية التواصل اللغوي. ولا شك أن النزعة الكلامية الجديدة تعكس في ما وراء خطابها المتعالم عجزا جليا عن انجاز شعار التجديد والإصلاح الذي ترفعه.

 

والمشكل المنهجي الكبير الذي تطرحه مقاربة هذا الصنف من “المتكلمين الجدد” هو افتراض القطيعة بين النص موضوع الدرس (النص الديني) ومناهج التأويل المطبقة عليه (العلوم الإنسانية النابذة للمسلمات الغيبية والسرديات الخارقة).

 

فهذا الحكم لا يستقيم لسببين رئيسيين، يتعلق أولهما بالتداخل النظري والقيمي بين النص الديني والعدة التأويلية التي تتناوله، ويتعلق ثانيهما بطبيعة المناهج التأويلية ذاتها التي يحملها “أركون” مضامين تعبوية بحيث تكون بديلا عن النص الديني نفسه.

 

أما العامل الأول، فيبدو بارزا في مسار الفلسفة الغربية التي كانت في كامل محطاتها صياغات عقلانية للمواقف اللاهوتية.

 

فمبدأ الذاتية الذي هو أرضية الحداثة الغربية  يرجع بوضوح للتقليد اللاهوتي المسيحي، على الرغم من الصورة السائدة بأن فلسفة ديكارت شكلت قطيعة مع الميتافيزيقا الوسيطة. ذلك أن لاهوت التجسد؛ (أي تجسد الرب في  شخص المسيح) يؤول بداهة إلى الاستبطان  وتحويل الفكر إلى دائرة الوعي المتمحور حول نفسه. فنموذج الحقيقة كتطابق بين الوعي والموضوع لا يفهم خارج هذا التأسيس اللاهوتي، كما أن هذا التطابق كما أدرك ديكارت نفسه يقتضي ضمانة إلهية دائمة.

 

ولا يشذ التصور الكانطي عن هذا المنطلق،باعتباره أناط مبدأ الحرية بالمنظور اللاهوتي، واعتبر الدين شرطا للقول بأهلية الإنسان وقدرته على الفعل، فهو مرجعية الأخلاق (الاستعداد للخير)، والمطلوب من الفلسفة هو الترجمة العقلانية للقيم الدينية المطلقة (مشروع كتابه الدين في حدود العقل وحده).

 

أما فلسفة  “هيغل”  فليست سوى صياغة نظرية للتثليث المسيحي، وطلبا لتناسب العقل الذاتي المجرد مع  الروح المطلق. ويقر هيغل بهذه الحقيقة،مصرحا بان كل فلسفته هي تطبيق موضوعي للروح المسيحية.

 

أما الفلسفات الإلحادية فتندرج في السياق ذاته سلبا، فهي إما محاولة لاستكمال حركية للاهوت المسيحي (استبدال الإله الأعلى بالإنسان الكامل) كما هو الشأن لدى” فيورباخ” والفلسفات الوجودية أو بحثا عن لاهوت بديل طلبا للكمال الإلهي برفض صورة الإله – الإنسان كما لدى “نيتشه” مثلا.

 

وأما “فلسفات الاختلاف” الرافضة للمقاييس الذاتية فقد صدرت كما هو جلي في كتابات “إمانويل لفيناس” وخفي في أعمال “جاك دريدا” عن خلفية لاهوتية يهودية، تنعكس في مقولات التبعثر والشتات والتيه، وفي خط “اللاهوت السلبي” المهيمن على التصوف اليهودي.

 

ولا يعني هذا القول أن التقليد الفلسفي الحديث والمعاصر داخل في باب اللاهوت أو هو من الدس الديني المقصود، وإنما أردنا التنبيه إلى التداخل الكثيف بين المبحثين اللاهوتي والفلسفي في الفكر الغربي المعاصر، بغض النظر عن موقف الفلاسفة من الدين أو من انتماءاتهم الدينية.

 

أما العامل الثاني المتعلق بمناهج التأويل نفسها، فيمكن القول أن العلوم الإنسانية نبذت بقوة الوهم الوضعي الذي طبعها في بداياتها، ولم تعد تدعي مطلقا القدرة على بناء نماذج موضوعية علمية في دراسة الظاهرة الدينية على غرار الظواهر الطبيعية.

 

فهذه العلوم باعتبار كونها “معارف تاريخية–تأويلية” (حسب عبارة هابرماس) تنغرس في الأرضية التأويلية التي تستمد منها المقولات والمفاهيم التي تسعى لتطبيقها على هذه الأرضية، وتلك هي المعادلة التي أطلق عليها “هايدغر” عبارة “الدور التأويلي”.

 

والملاحظ إجمالا أن المناهج التأويلية المعاصرة تأرجحت بين مسلكين متمايزين:

 

ـ هرمنوطيقا تستقصي داخل النص المسافة التي تفصلنا عنه عبر وسائط اللغة والتاريخ، فتقف عند السياقات الأصلية وتبرزها في تاريخيتها واختلافها (شلرماخر ودلتاي).

 

ـ هرمنوطيقا تنطلق من انتماء المؤول إلى العالم الذي يخضعه للتأويل؛ أي إلى السؤال الذي يطرحه النص والى سياقه العقدي والثقافي (غدامير وهايدغر).

 

فإذا كان المسلك الأول مفيد منهجيا في تحريرنا من سلطة التأويلات السابقة، وضروري لإبراز تاريخية المفاهيم والأفكار وسياقات تلقيها وانتقالها، إلا أنه يقوم على وهم لابد من التحرر منه هو وهم النص المغلق المفصول عن القارئ؛ فالقارئ ليس مجرد متلق مستقبل، بل يشارك في إنتاج الدلالة والمعنى. وكما يبين الفيلسوف الفرنسي الكبير “بول ريكور” يفضي فعل التأويل إلى الفعل؛ لأنه يقتضي تخيل العوالم الممكنة التي يختزنها النص. فليس التأويل، إذن، استرجاعا للعالم المفقود، وإنما استقصاء للآفاق التي يفتتحها النص. وهذا البعد هو الذي يطلق عليه ريكور المحور “الشعري” أو الإنشائي poétique، في مقابل البعدين النقدي والأنطولوجي.

 

من هذه المنطلقات، ندرك أن خطا النظريات التأويلية النقدية التي برزت في الفكر العربي من أجل قراءة النص الإسلامي أصلا وتراثا، اكتفت في الغالب بالمستوى النقدي وبنت عليه نتائج راديكالية لا مبرر لها، عاجزة عن إبداع تأويلات ثرية من شانها تجديد الدين وتوظيف الإمكانات الخصبة في التراث.

 

لقد عجز مفكرونا عن ما نجح فيه فلاسفة الغرب ومفكروه، الذين استثمروا الآفاق الرحبة للنص اللاهوتي، دون حاجة إلى تبرير هذا التوظيف، ومع احترام شروط التفلسف الإشكالية والتصورية.

 

فالفيلسوف اليهودي المعروف “لفيناس” استطاع أن يجد في النص التلمودي المليء بالخرافة والتعصب ما يبني عليه أخلاقية الاختلاف التي أرادها بديلا لذاتية الحداثة المتمحورة حول نفسها.

 

والفيلسوف الايطالي “جاني فاتيمو” وجد في تحطيم “نيتشه” للميتافيزيقا سبيلا لتجديد المسيحية  بعد أن انهارت العقيدة الفلسفية المنافسة لها.

 

ومن هنا تندرج محاولة الفيلسوف الفرنسي المسلم “عبد النور بدار” في كتابه الأخير “الإسلام دون استسلام[27]” الذي يبين فيه أن النص الإسلامي يؤسس ميتافيزيقيا وتأويليا لدين انعتاق وتحرر من خلال فكرة “الاستخلاف” التي لما تستوعب آفاقها الدلالية الرحبة بعد.فإذا كان بعض علماء الأنثروبولوجيا والتاريخ الأوروبيين قد لمسوا في فكرة التجسد المسيحية منطلقا للتصورات العلمانية مما حدا بهم إلى القول “إن المسيحية هي ديانة الخروج من الدين” (مارسيل غوشيه)، فإن الإسلام وضع بفكرة خلافة الإنسان لله أساسا مكينا لحرية الإنسان ورشده، باعتبار أن الخليفة يحل محل مستخلفه في تسيير الطبيعة والوجود الإنساني بحرية ومسؤولية. إنه المعنى الذي أدركه الصوفية وفلاسفة الإشراق في نظرتهم للإنسان كمرآة للإلوهية، وتأكيدهم أن لا طريق للحق إلا بواسطة الخلق.

 

والفرق بين مسار الخروج من الدين في المسيحية ومسار الاستخلاف في الإسلام (وما يرتبط به من حدث ختم النبوءة) هو أن الأول أفضى إلى تحويل الإنسان إلى مركز الإلوهية (مما هو متضمن بالقوة في فكرة التجسد)، في حين يمكن بناء مقاربة إسلامية منسجمة للحرية والرشد الإنساني من منظور وفاء الخليفة للمستخلف. إنه وفاء يتحقق عبر مسلكين رئيسيين: الذكر والاستذكار محورا للعبادة، والتأويل المتجدد بقراءة النص-التركة الذي لا يجوز أن ننظر إليه كسقف مقيد، وإنما كآيات رحبة للتدبر وكشريعة (بمعنى طريق) نسير وفق مقاصدها وموجهاتها. وقد أحسن الصوفية الأوائل بقولهم “إن الطريق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق”.

الدكتور: السيد ولد أباه / مفكر موريتاني

 

الهوامش

  1. 1. ابن رشد، “مناهج الأدلة في عقائد الملة”، دار الكتب العلمية 2002، ص75.

 

  1. 2. علي سامي النشار، “نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام” دار المعارف، ط 9، 1995.

 

  1. 3. من أهم كتب طه عبد الرحمن في علم الكلام: “في أصول الحوار وتجديد علم الكلام”، المركز الثقافي العربي 2000.

 

  1. 4. أبو يعرب المرزوقي، “تجليات الفلسفة العربية منطق تاريخها من خلال منزلة الكلي”، دار الفكر 2001.

 

  1. 5. سيد قطب، “خصائص التصور الإسلامي ومقوماته”، دار الشروق (طبعات عديدة).

 

  1. 6. وحيد الدين خان، “الإسلام يتحدى”، مؤسسة الرسالة (طبعات عديدة).

 

  1. 7. أحمد أمين، “ضحى الإسلام، ظهر الإسلام”، دار الكتب العلمية (ط 2004).

 

  1. 8. عبد الرحمن بدوي، “مذاهب الإسلاميين”، دار العلم للملايين 1971.

 

  1. 9. محمد عابد الجابري، “تكوين العقل العربي”، مركز دراسات الوحدة العربية 1982، “بنية العقل العربي”، مركز دراسات الوحدة العربية، 1986.

 

  1. 10. حسن حنفي، “من العقيدة إلى الثورة”، (5 مجلدات) مدبولي 1988.

 

  1. 11. Wilfred Ferdinand Madelung:

 

– “Religious school and sects in medieval Islam” variorum reprints 1985.

 

– “Religious Trends in Early Islamic Iran” Persian Heritage Foundation 1988.

 

  1. 12. Van Ess (Josef): Theologie Und Gesellschaft Im 2. Und 3. Jahrhundert Hidschra: Eine Geschichte Des Religioesen Denkens Im Fruehen Islam Walter De Gruyter 1992.
  2. 13. Cook (Michael): Early muslim dogma Cambridge university press 1991.

 

  1. 14. Gimaret (Daniel): la doctrine d AL-ASHARI cerf 1990, Dieu a l image de l home cerf 1997.

 

  1. 15. سعيد بنسعيد العلوي، الخطاب الأشعري، دار المنتخب العربي، 1992.

 

  1. 16. في أصول الحوار وتجديد علم الكلام (سبق ذكره).

 

  1. 17. المرزوقي، “مفهوم السببية عند الغزالي، منزلة الكلي، إصلاح الفلسفة”.

 

  1. 18. محمد بوهلال، “الغيب والشهادة في فكر الغزالي” دار محمد علي للنشر 2003. “العقدي والمعرفي في علم الكلام” سوسة: كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 2008.

 

  1. 19. محمد عبده، “رسالة التوحيد” دار الكتاب العربي، 1966.

 

  1. 20. محمد إقبال، “تجديد الفكر الديني في الإسلام” لجنة التأليف والنشر، 1968.

 

  1. 21. راجع: “علم الكلام الجديد وفلسفة الدين”، إعداد: عبد الجبار الرفاعي دار الهادي 2002.

 

  1. 2. Benzine Rachid: les nouveaux penseurs de islam Albin Michel 2004.

 

  1. 22. محمد أركون، “الفكر الإسلامي: قراءة علمية مركز الإنماء القومي، 1987. “تاريخية الفكر العربي الإسلامي”، مركز الإنماء القومي 1986. “قضايا في نقد العقل الديني”، دار الطليعة 1998. “أين هو الفكر الإسلامي المعاصر”، دار الساقي (ط2 1995). “القرآن: من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني” دار الطليعة 2001.

 

Humanisme et islam vrin 2006.

 

  1. 23. Meddeb (Abdelwahab): la maladie de l islam seuil 2002.

 

  1. 24. sortir de la malédiction: l islam entre civilisation et barbarie seuil 2009.

 

  1. 25. الكتاب الرئيسي لمدرسة المراجعين الجدد هو:

 

Michael Cook, Patricia Crone: Hagarism: The Making of the Islamic World Cambridge University press 1980.

 

  1. 26. Abdennour Bidar: l’ islam sans soumission Albin Michel 2008..

spot_img