ثلاثة كتب أساسية معاصرة تلخص إلى حد بعيد إسهام العلوم الإنسانية في فهم وتصور المسألة القومية: كتاب المؤرخ الإيرلندي “بنديكت أندرسون” الذي يحمل عنوان “المجموعات المتخيلة” (Imagined Communities) ،وكتاب عالم الإنثربولوجيا البريطاني ذي الأصل التشيكي “أرنست غلنر” المعنون بـ “القوميات والقومية”
(nations and nationalism)، وكتاب المؤرخ البريطاني “أريك هوبزباوم” بعنوان “القومية والنزعة القومية منذ 1780” (Nations and nationalism since 1780).
ما يجمع ما بين هذه الكتب الثلاثة على اختلاف مقارباتها المنهجية هو الخروج من النظرية السائدة في الأدبيات الاجتماعية حول الأمة والنزعة القومية، سواء بالنظر إلى الأمة بصفتها رابطة عضوية بديهية تستند إلى الثقافة المتناسقة والوعي المشترك (الأطروحة الألمانية)، أو بصفتها روحًا وطنية واحدة بإرادة مشتركة ضمن كيان سياسي مركزي (الأطروحة الفرنسية).
ما تتفق فيه هذه النظريات الثلاث هو كون الأمة نتاج النزعة القومية التي صاغت هويات جماعية ومنحتها عناصر الوعي والديمومة، من خلال دور الدولة الإدماجية الشمولية.
لنبدأ من كتاب عالم الاجتماع الأشهر غلنر الذي ينطلق من مركزية العنصر الثقافي في تشكيل الأمم الحديثة، معتبرًا أن النظام التربوي الذي تشرف عليه الدولة المركزية هو القوة الدافعة الرئيسية لتشكيل مجتمعات قوية مندمجة، من خلال فرض ثقافة عليا تستوعب وتتجاوز الثقافات المحلية المتنافرة، وتنتشر بفضل لغة قومية جامعة.
من هذا المنظور، يميز غلنر في كتابه الصادر سنة 1983 بين ثلاثة أنواع من النزعة القومية:
- النزعة القومية الإمبراطورية: حيث تتحكم القيادات العليا الحاكمة في الثقافة السامية للدولة، بينما تتشبث مكونات الدولة الإمبراطورية من شعوب ومجموعات بثقافاتها المحلية. ما يحدث لاحقًا هو بروز نزعات قومية خصوصية لدى القوميات والمجموعات الثقافية، تتحول تدريجيًّا إلى مطالب سياسية انفصالية تفضي إلى حالات قومية خصوصية، كما وقع عند تحلل الإمبراطوريات الحديثة الكبرى وآخرها الإمبراطورية السوفياتية.
- النزعة القومية الثقافية: التي تكمن في نزوع المجموعات الثقافية المنسجمة إلى تشكيل دول اندماجية موحدة، كما حدث في ألمانيا وإيطاليا.
- النزعة القومية للمهاجرين: أي طموح الجاليات الثقافية والدينية المشتتة في العالم إلى تشكيل أمة قومية مندمجة، كردة فعل على اتجاه الدولة المركزية إلى تحطيم الحواجز بين مكونات المجموعات المواطنة، بحيث تصبح هذه الجاليات مهددة بالذوبان والضياع فتطمح إلى تشكيل أمة سياسية مستقلة، مثلما حدث للجاليات اليهودية في أوروبا.
في مقابل هذه المقاربة الثقافية الأنثربولوجية، يذهب بنديكت أندرسون إلى أن القوميات ليست سوى “مجموعات متخيلة” وليست كيانات واقعية، وهي تحتاج إلى ثلاثة شروط أساسية هي: عنصر الشرعية الذي يسمح لها بالاعتراف الخارجي ضمن حدود مضبوطة، وعنصر السيادة الذي يوفر لها السلطة المطلقة في مجالها القانوني الداخلي، وعنصر الانسجام الذي يخولها طابع الترابط الأفقي والتلاحم الشعوري. بيد أن هذه العناصر هي في حقيقتها مبنية مصطنعة وليست طبيعية أو تلقائية.
وفي هذا السياق، يركز أندرسون على دور الحركية الرأسمالية في توحيد الثقافات الوطنية، من خلال اللغات المحلية التي كرست ووطدت أنماط الوعي الجماعي عبر التعليم المركزي، ومن خلال الرواية الأدبية التي صاغت سردية متينة للهوية القومية. إلا أن أندرسون يبين أن حقيقة الأمم القومية لا علاقة لها بالنزعة القومية في ذاتها، حتى بالنظر إلى المقومات الثقافية، مستشهدًا بمثال اللغات التي تعتبر ركيزة الوحدة الثقافية للأمة. فالحقيقة هي أن الكيانات السياسية المركزية فرضت الانسجام اللغوي بدل أن تكون اللغة هي نقطة ارتكاز البناء القومي. ففي فرنسا مثلًا لم يكن أكثر من خُمس السكان يتكلم بطلاقة اللغة الفرنسية سنة 1749، وفي سنة 1860 كان أقل من واحد من كل أربعين إيطالي يتحدث بإتقان باللغة الإيطالية.
الخلاصة التي يصل إليها أندرسون هي أن البورجوازيات الأوروبية الصاعدة استخدمت النزعة القومية المتخيلة في الحفاظ على المجموعات الاندماجية الكبرى السابقة على نشوء الدولة القومية، فكانت النزعة القومية هي البديل عن الحق الإلهي المقدس في تشريع النظام السياسي المركزي. وفي مرحلة لاحقة، تماهت الشعوب مع هذه المجموعات المتخيلة التي اصطنعتها البورجوازيات الوطنية.
في كتاب إريك هوبزباوم الصادر سنة 2012 تحليل ذو خلفية ماركسية لنشوء القوميات الحديثة، يبين فيه أن النزعة القومية وإن استندت إلى خلفيات عرقية إثنية، إلا أنها في الحقيقة من صياغة الدولة الإقليمية المركزية. ولقد تشكل هذا النموذج مع الثورة الفرنسية وانتقل إلى بقية أوروبا، وأساسه هو الربط العضوي بين الدولة والأمة والشعب ذي السلطة السيادية المطلقة. فالنزعة القومية من هذا المنظور ليست سوى “حيلة تصورية” لتكريس شرعية الدولة الوطنية المهيمنة كليًّا على الأفراد والمجتمعات.
وعلى غرار الباحثين السابقين، يثير هوبزباوم دور العوامل الثقافية في بناء وتوطيد هذه النزعة القومية، مركزًا على التحول المفهومي الهائل في فهم وتأويل الزمن بانبثاق الزمنية “الفارغة والمنسجمة” التي هي لحظة الحاضر الممتد والآني، بالقطيعة مع الزمنية “المقدسة الممتلئة” التي يتداخل فيها الماضي والمستقبل. ولقد عكست التحولات الثقافية الحديثة هذه الحركية، عبر الصناعات التربوية والصحافة والأدب، بما أفضى الى توطيد النزعة القومية في الشعور الوطني الجماعي.
لقد استعرضنا هذه الأطروحات الثلاث التي تغطي أهم المقاربات التاريخية والاجتماعية الغربية حول النزعة القومية وتشكل الدولة -الأمة الحديثة. ما نريد أن نخلص إليه هو تقديم ملاحظتين محوريتين بالنسبة للتجربة العربية المعاصرة:
أولًا: إن الثغرة الأساسية في حركية البناء القومي العربي تكمن في ضعف التفكير في المحور السياسي، أي مقتضيات الدولة في مقوماتها المركزية وفاعليتها التاريخية، باعتبار أن التجارب الغربية بينت أن دور الدولة هو الحاسم في صياغة وإنجاز القاعدة الثقافية والشعورية للأمة من حيث هي كيان سياسي مندمج وموحد.
ثانيًا: إن المسار القومي هو في عمقه مسار تحديثي، بمعنى أن البناء القومي الناجع اجتماعيًّا وسياسيًّا، يتطلب دفع شروط التنوير الفكري والمجتمعي، وتحديث الوعي وإعادة بناء المقومات الثقافية العميقة للأمة. فدون هذه الشروط والمتطلبات لا يمكن إنجاز مشروع قومي ناجع، على أساس الرصيد التاريخي أو التراثي وحده الذي شغل كتابنا ومفكرينا منذ المحطة الأولى من محطات المشروع القومي العربي.
الدكتور: السيد ولد أباه / مفكر موريتاني