spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

العرب وتحولات المعادلة الاستراتيجية الدولية

كثيرًا ما تفسر إخفاقات وهزائم العرب بغياب الرؤية الاستراتيجية الثاقبة والموضوعية لمعطيات وموازين العلاقات الدولية ظهر هذا القصور وفق الرؤية المذكورة من انتفاضة العرب الأولى التي لم تنتبه إلى تطورات النظام الدولي وانعكاساتها في ترتيب المسألة الشرقية، بحيث إن اتفاقيات سويس بيكو الشهيرة (1916) جرت بمنأى عن العرب وإن كانوا ضحاياها.

كما أن العرب برفضهم قرار تقسيم فلسطين الصادر عن هيئة الأمم المتحدة (قرار 181 الصادر بتاريخ 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1967)، حكموا على أنفسهم وفق هذا التصور بالهامشية والعزلة الدولية.

وكثيرًا ما يذكر خطاب الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة في مدينة أريحا في 3 آذار/مارس 1965 الذي طالب فيه بالتعامل الواقعي مع وجود إسرائيل مع المطالبة بالحقوق العربية، استفادة من تجربة الكفاح السياسي العسكري التونسي التي جمعت بين خيار التنازل المرحلي وسياسة النفس الطويل. كان بورقيبة يتحدث قبل حرب 1967 التي ضاعت فيها الضفة الغربية، والقدس، وغزة وسيناء والجولان، وأصبح أقصى الطموح هو إقامة الدولة الفلسطينية في حدود ما قبل الحرب.

هل كان الزعيم المصري جمال عبد الناصر مخطئًا في قراءة المعطيات الدولية بانحيازه للاتحاد السوفياتي ومحاولته بناء كتلة جنوبية من دول عدم الانحياز، بما قاده إلى الهزيمة المحققة في مواجهة عدو مدعوم من الغرب المسيطر عمليًّا على النظام الدولي؟

كان أنور السادات مؤمنًا بهذه المقاربة وهو الذي اعتبر أن جل أوراق الحل بيد الولايات المتحدة الأمريكية، كما اقتنع بأن التحالف الاستراتيجي مع الاتحاد السوفياتي عقيم ولا يفضي إلى أي نتيجة.

يبدو أن العرب الذين قاطعوا مصر بعد اتفاقيات كامب ديفيد سنة 1979 أدركوا منذ مؤتمر مدريد (1991) واتفاقات أوسلو (1993) أن المسلك الواقعي المستند إلى القانون الدولي هو الطريق الوحيد لاستعادة الحقوق وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي. ولقد عبرت مبادرة السلام العربية الصادرة عن قمة بيروت في 2002 عن هذه الرؤية في ظرفية بدا فيها من الجلي أن الهامش الوحيد المتاح للقرار الاستراتيجي العربي محدد بسقف السياسات الشرق أوسطية الأمريكية في مرحلة ما بعد زلزال 11 أيلول/سبتمبر 2001.

لقد طرحت في المنطقة مبادرات دولية كثيرة، كانت أهمها مبادرة الرئيس كلينتون لحل المعضلة الفلسطينية التي كادت أن تنال قبولًا فلسطينيًّا وعربيًّا عند تقديمها سنة 2000، ثم تلتها مبادرة الشرق الأوسط الكبير في عهد جورج بوش الابن وكانت مزيجا من الطوبائية الرسالية (نشر الديمقراطية وكسر الاستبداد العربي)، ومن الإجراءات العملية المحدودة لاستعادة الثقة بين العرب والإسرائيليين في تراجع واضح عن سقف مدريد وأوسلو.

ما حدث في السنوات الأخيرة هو تعقد المعادلة الدولية في اتجاهات ثلاثة بارزة هي:

تراجع النفوذ الأمريكي في المنطقة، بعد أن تبنت إدارة الرئيس أوباما خيار الانسحاب التدريجي من الشرق الأوسط، والرهان على القوى الإقليمية غير العربية في ضبط أوضاعه وترتيبها. إنه نفس الموقف الذي تبناه الرئيس دونالد ترامب وكانت حصيلته “صفقة القرن” التي لم تكن في حقيقتها مبادرة جدية ولا واقعية. ومع أن الرئيس الحالي بايدن صرح مرات عديدة عن عزمه العودة إلى قواعد اللعبة الشرق أوسطية التقليدية، إلا أن اتجاه الانسحاب الاستراتيجي من الشرق الأوسط تواصل بوضوح، وظهر أنه خيار عميق وثابت من أقوى مؤشراته الخروج المثير من أفغانستان بعد عقدين من التدخل القسري والحروب الدموية. إن تراجع النفوذ الأمريكي في المنطقة ليس مجرد خيار حكومي أو رسمي، بل يحيل إلى ما أشار إليه العديد من المفكرين في الشؤون الاستراتيجية من اتجاه صعود القوى الإقليمية في مجالاتها الحيوية على حساب القوى الكبرى التي اصطدمت بما سماه “برتراند بادي” ضعف القوة، الذي يترجم اليوم بالانتقال من صراعات تتحكم فيها القوة إلى صراعات يحسمها الضعف.

الرجوع إلى نمط جديد من “الحرب الباردة” يختلف نوعيًّا عن الصراع القطبي السابق بأبعاده الأيديولوجية والاستراتيجية. إنه صراع بأوجه متعددة: القوى المحافظة مقابل القوى التقدمية، المنظومة الليبرالية مقابل الديمقراطيات غير الليبرالية، الشعبويات التسلطية مقابل الأنظمة السياسية الحرة والمفتوحة، وغيرها. وإذا كان هذا الصراع يدور داخل العالم الغربي نفسه، إلا أنه أصبح يتركز اليوم على خط التصادم الأورو آسيوي بين روسيا والصين من جهة، والغرب من جهة أخرى.

بروز قوى جنوبية صاعدة اقتصاديًّا وعسكريًّا واستراتيجيًّا تتركز في مجموعة “البريكس” التي تشكلت عام 2009 من نواة تضم البرازيل، وروسيا، والهند، والصين وجنوب إفريقيا، وهي اليوم في طور التوسع لتمدد عضويتها إلى بلدان أخرى تبحث عن موقع مستقل في خارطة النظام الدولي الجديد.

لقد فرضت هذه التحولات الاستراتيجية الكبرى نفسها على الدول العربية الفاعلة في منعرج مأساوي من تاريخ المنطقة طبعته الحروب الأهلية، والصراع السياسي العنيف، ومشاكل الانتقال الديمقراطي العصيّة التي خلفتها أحداث الربيع العربي.

ومن نتائج هذه المراجعات الأخيرة، العودة إلى نمط من منطق عدم الانحياز تجاه المحاور الدولية المتصارعة، وعيًا بأن المصالح الحيوية العربية ليست مرهونة بالمواقف الأمريكية، خصوصًا أن التجربة العينية أثبتت أن الولايات المتحدة تخلت بالفعل عن عقد الشراكة مع العرب ولم تعد مستعدة لدفع الثمن المترتب عليها.

وهكذا شاع بقوة خيار الشراكات المتنوعة الذي يعني إقامة علاقات متوازنة مع كل القوى الدولية المؤثرة، والسعي لبناء عناصر القوة الذاتية على غرار تجارب الدول الجنوبية الصاعدة.

خلاصة القول إن الرؤية الاستراتيجية العربية تبدو في طور الانتقال إلى المسلك الواقعي المرن في التعامل مع رهانات الوضع الجيوسياسي العالمي، بحثًا عن إمكانات جديدة لحل القضايا العربية العالقة في إطار المعادلة الراهنة.

وبطبيعة الأمر، لا يمكن حاليًّا الركون إلى قطب قائم في عملية الصراع الدولي، وقد جرب العرب مساوئ وحدود الاستقطاب السابق في الحرب الباردة، بيد أن خارطة العلاقات الدولية التي هي في طور التشكل ستوفر دون شك أوراق مناورة وحركة مفيدة من الضروري الاستفادة منها مستقبلًا في انتزاع الحقوق العربية المسلوبة.

 

الدكتور السيد ولد أباه / مفكر موريتاني

 

spot_img