لا يتردد الفيلسوف الفرنسي جان ليك ماريون في القول إن أوروبا لا تعيش في الراهن مجرد أزمة، بل إنها دخلت في مرحلة انحطاط حقيقي. الفرق بين المفهومين، هو أن الأزمة مرحلة خصبة للاختيار والقرار، في حين أن الانحطاط لحظة عدمية يصبح فيها المرء عاجزاً عن فهم الواقع أو تغييره.
ومن الواضح أن ماريون، مع أنه فيلسوف مسيحي، يستعير مقولة الانحطاط من نيتشه الذي خصص جل كتاباته في نهاية القرن التاسع عشر لمظاهر «العدمية الأوروبية» التي تعني بالنسبة له سيادة الغرائز الضعيفة المعادية للحياة والإبداع، متوقعاً أن تدخل القارة العجوز في انهيار شامل ربطه البعض بما حدث لاحقاً في نصف القرن الأول من حربين مدمرتين بعد رحيل نيتشه الذي صادف السنة الأولى من القرن العشرين. وهكذا يتفق ماريون مع نيتشه في نقد التصور القيمي للحقيقة السائد اليوم، أي النظر إلى الحقيقة من زاوية التقويم الذي يحيل إلى دلالات النجاعة والمردودية والمنفعة. الأمر هنا يتعلق بمقاربة استهلاكية نفذت إلى الحقل المعرفي من البوابة العلمية، وغدت معيارَ قياس المؤسسات والنظم بما فيها النظم الاجتماعية والمدنية والمعيارية.
عندما تصبح الحقائق قيماً، يتم اختزال الواقع في قيمة الأشياء، ويضيع مفهوم الحقيقة نفسه إذ يصبح من المستحيل وضع حد فاصل بين اليقين والوهم، ومن هنا ندرك شيوع «الحقائق الزائفة» والحديث المتزايد عن «ما بعد الحقيقة». ليست الظاهرة معرفية نظرية محضة، بل لها جوانبها السياسية الخطيرة، فالحقيقة تتأسس على السلطة والتراتبية، وعندما تغيب هذه الأبعاد لا يبقى إلا الحكم الفج، العاري من المثل، وذلك هو المسلك إلى نمط من الاستبدادية الرخوة التي لا منافذ فيها ولا مسالك فيها للمواجهة والتمرد. ومن الجلي أن أطروحة ماريون تختلف جذرياً مع مقاربة فيلسوف فرنسي آخر هو «ميشال اونفري» الذي نشر سنة 2017 كتاباً بعنوان «الانحطاط»، ذهب فيه إلى أن ما يعيشه الغربُ اليوم هو نهاية عصر التقليد الذي صاغ خلال ألفي سنة شكل وطبيعة الحضارة الغربية.
ما يعتبره اونفري نتاجَ المسيحية في تحولها إلى نزعة إنسانية «ضعيفة» عاجزة عن مواجهة صعود الحضارات الشرقية في فحولتها وعنفوانها، هو ما يربطه ماريون بسيطرة الميتافيزيقا في نسختها الأخلاقية الوضعية التي اعتبر أنها قوضت الروح الأصلية للمسيحية. هنا نلمس مكمنَ الحوار الفلسفي الفكري الدائر حالياً في الساحة الغربية حول جذور الأزمة المجتمعية العميقة التي تمر بها المجتمعات المعاصرة، من حيث البدائل المتاحة لمواجهة الاختلالات العميقة البادية للعيان في الاقتصاد والبيئة والتقنيات المنفلتة من الضبط الأخلاقي.
يرى بعض الفلاسفة، انسياقاً مع أطروحة «نزع السحر عن العالَم» التي بلورها عالم الاجتماع الألماني الأشهر «ماكس فيبر»، أن العقلنة الموضوعية الإجرائية للطبيعة والمجتمع ينتج عنها ضرورةً صراع القيم وانحسار المعتقدات الجوهرية، ومن ثم تكون الأزمات الراهنة هي الثمن الذي لا بد من دفعه في مسارات التحديث المعرفي والمؤسسي. وإذا كانت السرديات الأيديولوجية الكبرى قد عوضت مؤقتاً المطلقَ الديني، فإن انهيارها الحالي هو الذي يفسر النزعة العدمية الرائجة، لكون الإنسان لا يمكن أن يعيش في سجن الحاضر الأفقي دون متعاليات أو مطلقات كما يرى رجيس دوبريه.
أما الأطروحة المقابلة فتنطلق من التمييز الصارم بين التقليد اللاهوتي الميتافيزيقي الذي سيطر على توجه المؤسسة الكنسية لقرون طويلة وبين الإمكانات التأويلية الثرية في الديانة المسيحية التي يتوجب عليها إعادة بناء لاهوتها بمراعاة مفاهيم الضعف والتعددية والمغايرة.. التي هي البديل المستقبلي عن النسخة الميتافيزيقية من المسيحية من حيث كونها الخلفية العميقة للحداثة العلمية والقانونية المعاصرة كما أدرك مارتن هايدغر. ومن أهم مَن بلور هذه الأطروحة الثانية الفيلسوف الإيطالي «جاني فاتيمو» وجان ليك ماريون الذي ذكرناه في بداية هذه المقالة.
يذهب جل الفلاسفة اليوم إلى التخلي عن وهم نهاية الدين الذي كان قد تحدث عنه ماركس وفرويد والفلاسفة الوضعيون، لكن السؤال الذي يشغلهم هو هل إعادة الاعتبار للدين في الشأن العمومي وفي الحياة الاجتماعية، تقتضي الرجوع للتقليد ما قبل الحديث في ربطه العضوي بين الأخلاق والسياسية وبين السعادة والعدالة، أو بتحديث الوعي الديني نفسه وفق قواعد التفكير النقدي الحالي، أم أن الأفق الديني يكمن في ما بعد الحداثة وبذا يكون بديلا تأويليا مستقبلياً مفتوحاً؟
الدكتور: السيد ولد أباه / مفكر موريتاني