spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

السياسة في عالم ما بعد الحقيقة

نشرت صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية (11 يناير 2024) ملفاً موسعاً حول تأثير الذكاء الاصطناعي على النظام الديمقراطي الحاضر، في أفق الانتخابات التي سيعرفها هذه السنة أكثر من نصف بلدان العالم، بما فيها الهند والولايات المتحدة الأميركية وإندونيسيا والمكسيك. ما تبيِّنه الصحيفة هو تنامي الخوف من التأثير السلبي للذكاء الاصطناعي التوليدي الذي أصبح بمقدوره التلاعب بأصوات الناخبين والقضاء على شرعية المنافسة التعددية التي هي معيار الأنظمة الديمقراطية.

ووفق معهد أوكسفورد للإنترنت، فقد تعرّض أكثر من ثمانين دولة في العالم، خلال سنة 2020، لموجات خطيرة من حملات التزييف الإعلامي عن طريق وسائل الاتصال العمومية، مما يسمح بالتشكيك في صدقية ونجاعة الحريات السياسية والإعلامية في هذه البلدان.

ومن هذه البلدان الولايات المتحدة نفسها، رائدة الحكامة الديمقراطية في العالم. لقد تحدث كثيرون عن العلاقة التلازمية بين صعود الأنظمة الشعبوية المتطرفة في الديمقراطيات الغربية وبين نمط الاتصال الإلكتروني الراهن الذي قضى على المفهوم الوصفي والتمثلي للحقيقة، إلى حد أن مصطلحات جديدة دخلت منظومة المفاهيم الاجتماعية من قبيل «ما بعد الحقيقة» و«الحقائق المخترعة» أو «الحقائق البديلة».

ومع أن الإشكال له جوانبه الجديدة الظاهرة (الثورة المعلوماتية الحالية)، فإن له جذوره البعيدة؛ ولا ننسى أن الخطاب الفلسفي نشأ مع أفلاطون من أجل تصفية الكلام وتنقيته من سحر البلاغة وقوة الوهم (صراع الفيلسوف والسوفسطائي). بيد أن الفلسفة نفسها، وإن كانت استراتيجية توضيح وإجلاء وتمييز، اضطرت في السياق الوسيط إلى استخدام آليات الإشارة والتعبير الرمزي التي اعتبرها الفيلسوفُ الألماني ليو شتراوس نمطَ البناء الفلسفي في عصور التنوير الكلاسيكي الذي فرض عليه أن يكون باطنياً ونخبوياً.

إلا أن حقبة التنوير قامت على ما سماه كانط «الاستخدام العمومي للعقل» الذي يعني نقل الحقيقة إلى المجال المشترك، وتحويلها إلى رهان كوني يتحدد بالفاعلية البرهانية المفتوحة والمتاحة لعموم الناس. ومن هنا العلاقة الوثيقة بين الديمقراطية من حيث هي مسار نقاشي وتمثيلي عمومي وبين المسؤولية المعرفية والأخلاقية عن الوصول إلى الحقيقة ونشرها.

وما نعيشه راهناً هو الانفصال المتزايد بين الحقيقة والتداول العمومي، هذا الانفصال الذي يتخذ وجهين خطيرين؛ أولهما غياب المرجعيات الموضوعية والوسائط التحققية في الخبر المتداول عن طريق التقنيات الاتصالية، بما يعني انعدام كل الوسائل الممكنة لضبط الحقائق الفعلية وتمييزها عن الأخبار الزائفة.. وثانيهما الانفصام المتزايد بين الحوامل التقنية والمادة المضمونية التي تنتفي أهميتُها في المفعول التواصلي القائم على تقاسم المشاعر والانطباعات لا على تبادل المعارف والعلوم الدقيقة. وهكذا لم يعد التمييز الأصلي بين «الحقيقي» و«الوهمي» مطروحاً، مما يترتب عليه تحول إبستومولوجي هائل في مستوى الوعي والتصور والإدراك.

لقد تساءلت مرة الفيلسوفة الألمانية الأميركية «حنة أرندت»: ماذا يبقى من النظام الديمقراطي إذا انتفى مطلب الحقيقة، أي إدراك «الوقائع الفعلية»؟ وما الذي يميز عندئذ النظام الديمقراطي عن التجارب الاستبدادية التي تتركز على التلاعب بعقول الناس وتزييف الحقائق المقدمة لهم؟

وكانت إجابة حنة أرندت إشكالية، لكون الديمقراطية تقتضي من وجه آخر القولَ بالتعددية الشرعية للأفكار والآراء المختلفة، مما يعني عملياً الإيمان بغياب حقيقة موضوعية ومطلقة وأحادية، على عكس ما تدعيه الأنظمة السلطوية من مرجعية علمية يقينية لنماذجها الاقتصادية والاجتماعية. إلا أن الديمقراطيات وإن كانت تتبنى أخلاقيات التسامح والتعددية الفكرية، فهي في الوقت نفسه تنطلق من النجاعة البرهانية للمقولات والآراء الخاضعة للتحقق الاستدلالي العمومي.

ومن ثم فإن الفرضية الاحتمالية الإبستومولوجية ليست عائقاً دون التوافقات العمومية الموزونة الضامنة لصلابة واستقرار النظام السياسي. في كتابها «هشاشة الحقيقي»، توضح الفيلسوفة الفرنسية مريام رفلولت دالونس أن المشكل الذي تطرحه مقولة «ما بعد الحقيقة» لا يتعلق فقط بنمط الإعلام أو الممارسة السياسية، بل يتمثل في تدمير الإمكانات الفعلية لبناء «عالم مشترك»، أي فضاء جامع بين أفراد يحتكمون إلى حقائق موضوعية فعلية مجردة، في ما وراء الحقائق العقلية الخاصة بالعلماء التي لم تعد منذ عصر عالم الفيزياء الشهير غاليليه مدار أحكام عمومية حرة.

عندما يتم التنكر للحقائق الفعلية الموضوعية وتصبح هذه الوقائع مجرد آراء وانطباعات، لا يبقى معنى للسياسة بمفهومها الحديث من حيث هي ممارسة اجتماعية مدنية تهدف إلى إقامة عالم مشترك يستوعب أنماط الوعي المتعددة والحرة.. أو بعبارة أخرى، فإنه عندما تنتفي الحقيقة تنتفي معها الحرية، ومن هنا فداحة الخطب وحدة الخطر.

spot_img