على مهل كانت الطرق المؤدية إلى مدينة أنيور المالية تنتهي إلى زاوية صوفية معلومة المكان، وعلى مهل يغادر المدينة سكانها والعابرون والزوار وبعض المريدين.
لم تعد الطرق إلى أنيور منذ يوم الأربعاء الماضي تبعث السكينة ذاتها، في المنطقة توتر شديد وأسلحة كثيرة، والشريط الذي كان يمتد من حضرة الصوفية إلى النوارة ذات الصيت في الغناء والتصوف في موروث المنطقة أمسك عن الترنم.
قسمات الوجوه وهمهمات البيوت هنا تشبه حد التطابق مثيلات لها في منطقة الصحراء الكبرى حيثما كانت الدراعة والملحفة والشاي.
بالإضافة إلى الثقل الروحي الذي تمثله الطريقة الحموية في أنيور باعتبارها واحدة من أكثر فروع الطريقة التيجانية نفوذا في المنطقة، لدرجة أن بعض الدارسين صنفها كحركة إسلامية مستدلا على ذلك بالحراك الذي قاده مؤسس الطريقة الشيخ أحمد حماه الله ضد المستعمر الفرنسي، والذي تسبب في إحدى محطاته بنفيه إلى مدينة المذرذرة جنوب موريتانيا؛ ظل الخليفة الحالي للطريقة الشيخ محمدو ولد حماه الله على علاقة وطيدة بكل الأنظمة التي حكمت موريتانيا، ولاعبا مؤثرا في الخريطة السياسية لولايات الشرق الموريتاني، رغم اختياره الاستقرار بمدينة أنيور المالية !
محاولات الظفر بتأثير الزاوية
الزاوية الحموية التي يعرف عنها تأثيرها الكبير في موالاة الأنظمة التي حكمت مالي وحتى موريتانيا، وظل تأثيرها محل صراع بين قوى ودول عدة، تبحث عن موطئ قدم في خارطة سياسية إقليمية معقدة.
فالشيخ محمدو ولد حماه الله ذو التأثير الكبير في شعوب المنطقة والذي تقدر أتباعه بالآلاف، كان وما يزال محل تقدير كبير من دول المنطقة، حتى أن البعض ذهب إلى القول بأنها هناك صراعا سياسيا على كسب ولائه بين المغرب والجزائر، ربما لحجم تأثيره على القرار السياسي في باماكو، وربما لأسباب أخرى تتعلق بالنفوذ الإقليمي ومكافحة الإرهاب.
ومع أن زاوية أنيور تحظى باهتمام كبير من طرف موريتانيا خصوصا في المواسم الانتخابية، بل وتعتبرها “ساحة خلفية” مهمة لأمنها القومي، فإن التعاطي الموريتاني مع ماتشهده المدينة حاليا من تهديدات من طرف جبهة ماسينا المرتبطة بتنظيم القاعدة، ما زال دون المستوى بحسب بعض المتابعين.
غياب رسمي وتضامن شعبي

ومنذ أعلنت جبهة ماسينا محاصرتها لمدينة أنيور، شهدت مواقع التواصل الاجتماعي في موريتانيا حملة تضامن واسعة مع شيخ الزاوية الحموية وأتباعه.
أحزاب سياسية وتجمعات دينية وثقافية، بادرت إلى الاتصال بشيخ الحموية للاطمئنان على سلامته، كان حزب “تواصل” الإسلامي، أولها ثم تتالت الاتصالات وشملت شخصيات دينية مثل الشيخ محمد الحافظ النحوي، رئيس التجمع الثقافي الإسلامي.
النائب البرلماني بيرام الداه اعبيد، دخل هو الآخر على الخط حيث دعا في رسالة وجهها أمس الجمعة إلى قادة الساحل، إلى إطلاق تحرك سريع، يهدف إلى فك الحصار المفروض على مدينة أنيور وإنقاذ سكانها.
وشدد ولد اعبيد في رسالته، على ضرورة اتخاذ تدابير فورية تضمن الحماية المباشرة للشيخ محمدو ولد الشيخ حماه الله وأسرته ومريديه.
هذه التحركات وغيرها، تجسد حتى الآن الموقف الموريتاني، وسط غياب أي تعليق حكومي رسمي على ما يجري في أنيور، مما يطرح تساؤلا وجيها: “هل تفرط نواكشوط بنفوذ روحي أصيل لها وسط الأحداث الجارية في أنيور؟!.
الصحفي الموريتاني المختص في الشأن الإفريقي حسن المهدي قال في تصريحات لمدار، إنه لا “يسمي بالضرورة موقف نواكشوط تجاه النفوذ الروحي الحموي في الجارة مالي بالمفرط بقدر ماهو عدم اهتمام بذلك البعد الاستراتيجي، على حساب مصالح أخرى”.
ولفت ولد المهدي إلى أن هذا الموقف يأتي “رغم أن الأنظمة الموريتانية السابقة، كانت دائما تسعى للمحافظة على النفوذ الروحي كأداة للتوازن في علاقتها مع باماكو، بل أداة استخباراتية غيرت من خلالها نواكشوط معادلات كثيرة، سعيا لتأمين مصالحها الأمنية الحدودية”.
إكراهات الدبلوماسية الناعمة؟!
ويبرر المختص في الشأن الإفريقي حسن المهدي موقف نواكشوط من أحداث أنيور، بكون النظام الحالي “ربما على عكس سابقيه أو سابقه للتحديد، يعول كثيرا على الدبلوماسية الناعمة للتحكم بزمام الأمور في المنطقة الحدودية أو هكذا يقول”.
هل توفر موريتانيا خطا آمنا لحضرة أنيور؟
من جانبه يرى الخبير بالشأن الإفريفي إسماعيل ولد الشيخ سيديا، أن “هنالك فقط إمكانية توفير خط آمن لمن أراد دخول موريتانيا انطلاقا من مدينة انيورو”.
ويضيف ولد الشيخ سيديا: “وهو سيناريو مستبعد؛ بحكم اهتمام سلطات باماكو بالمدينة عسكريا وسياسيا؛ وإعلان المشيخة هناك عدم نيتها مغادرة المدينة”
ويرى الخبير بالشأن الإفريقي في حديث مع “مدار”، أن “نواكشوط لا يمكنها التدخل عسكريا في عملية داخل بلد جار لحساب طرف محلي؛ لا القانون الدولي ولا اتفاقيات التعاون البينية تسمح لها بذلك؛ لها فقط حق المطاردة داخل الأراضي المالية وقد يكون حقا منخرما بسبب انخرام تجمع دول الساحل الخمس وكذلك انسحاب مالي من اتفاقية ميدان في تمنراست”.
ويشير ولد الشيخ سيديا، إلى أنه “قد يكون بوسع انواكشوط التحرك سياسيا وأمنيا للتوسط بموافقة من الحكومة المالية لدى الحركات المسلحة حتى تهدأ الاوضاع؛ بل قد يكون بإمكانها وبموافقة باماكو التوسط لإيجاد حل سياسي في مالي؛ لكن هذا مستبعدا في الوقت الراهن بسبب انخراط أطراف الحرب في مالي في ديناميات تصعيد صعبة على التوقع”.





