لا شك في أن الحدث السوري فاجأ الجميع رغم ما كان واضحاً من عزلة النظام السابق، وفشله في تحقيق مشروع المصالحة الوطنية، والرجوع للحضن العربي، وفق نصائح أطراف عديدة في المنطقة. والخوف مشروعٌ على سوريا الجديدة، والتي تعرف مصاعب الانتقال السياسي ومخاطر التطرف الراديكالي على أبواب السلطة. ومن أهم التحديات المطروحة الحفاظ على الدولة الوطنية المركزية المعبّرة عن هوية اجتماعية تشاركية ضامنة للسلم الأهلي والمصالح العمومية.
وليس مِن همّنا هنا الرجوع إلى المعطيات التاريخية البعيدة، لكن لا بد من التنبيه إلى أن سوريا – شأنها شأن بلدان عربية عديدة – عانت طيلة تاريخها الحديث من عقبات وإشكالات بناء دولة وطنية حديثة مستقرة وفاعلة. وإذا استخدمنا النموذج الفيبري (نسبة لعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر)، فسنرى أن مقومات الدولة الوطنية الحديثة ثلاث هي: المؤسسة العسكرية المركزية القادرة على احتكار العنف الشرعي، والبيروقراطية الإدارية المستقلة عن الانتماءات الهوياتية الخصوصية والضيقة، ونظام المشاركة المدنية الذي يمكن أن يأخذ عدةَ صيغ مؤسسية لا تنحصر في النموذج الليبرالي الحزبي.
وتاريخ سوريا الحديث يبين لنا أنها عانت منذ العهد العثماني من استقطاب مزدوج بين عالَميْ المدينة والأرياف، بين الهوية الوطنية المركزية والهويات الدينية والطائفية والإثنية الباحثة عن تعبيرات سياسية. وفي العصر العثماني، كانت سوريا تتوزع إلى مناطق أربع هي: حلب التي تسيطر على الشمال، ودمشق التي تهيمن على الجنوب الشرقي، والمنطقة الساحلية في الغرب، ومنطقة السهول الشرقية. ومع إصلاحات إبراهيم باشا (1846 – 1878)، بدأت إرهاصات الدولة السورية الحديثة بتشكيل مؤسسات إدارية مركزية متمحورة حول المدن الكبرى، ووضع نظام تمثيلي هيمنت عليه الأسر الحضرية المتنفذة.
وقد استمر هذا النموذج مع عهد الانتداب الفرنسي (1920- 1946)، رغم فصل مناطق واسعة من سوريا، وكان قاعدةَ البناء السياسي للدولة الوطنية المستقلة في العهد الملكي قبل استيلاء العسكر على السلطة سنة 1949. وعلى الرغم من تحكم المؤسسة العسكرية في السلطة، فإن وصول التنظيمات القومية الراديكالية إلى الحكم منذ عام 1963، قضى تدريجياً على دعامتَي الدولة الوطنية المركزية الوليدة، وهما: البيروقراطية الإدارية المدينية التي فقدت قوتَها وفاعليتَها بعد تعطيل النظام الانتخابي وتقويض المنظومة الاقتصادية التجارية التي كانت متمحورة حول الحواضر الكبرى، والمؤسسة العسكرية التي تحولت إلى نمط من الميليشيات الحزبية ذات قاعدة طائفية ضيقة.
ولقد انعكست أزمة الاجتماع السياسي المدني في أحداث 2011 التي كشفت في آن واحد عن هشاشة النظام البعثي القائم وعن ضعف القاعدة السياسية لقوى التغيير التي سيطرت عليها الجماعات المتطرفة العنيفة. وليس مِن همّنا هنا الوقوف على مستجدات الوضع السوري الراهن، إذ ما تزال الأمور سائلة وغامضة والمخاطر المحدقة كثيرة والاحتمالات المتاحة متعددة، بيد أنما يجب التأكيد عليه هو أن المطلوب بقوة في الوقت الحاضر هو استئناف مشروع بناء الدولة على أساس المرتكزات التي أشرنا إليها سابقاً.
ولعل أحد أهم التحديات المطروحة هو الخروج من الحالة الميليشياتية عبر بناء مؤسسة عسكرية مركزية وغير مسيسة قادرة على تأمين السلم الأهلي ومتطلبات العيش المشترك. وربما يمثل الوضع العراقي بعد سقوط نظام صدام حسين دليلاً واضحاً على خطر الفراغ الاجتماعي والسياسي المتولّد عن حل الجيش الوطني وغياب مؤسسة عسكرية فاعلة. ومن هذه التحديات أيضاً الحاجة إلى إعادة بناء بيروقراطية إدارية مؤهِّلة لتسيير المجال العمومي، على أن لا تلتبس بدائرة السلطة السياسية المتغيرة والمتنقلة. وكما هو معروف، فقد عمل النظام البعثي المنهار على تقويض الهياكل البيروقراطية للدولة بإخضاعها للتسييس الحزبي، في الوقت الذي قضت سنوات الحرب الأهلية على بقايا النظم الإدارية القائمة.
ولا شك في أن مسؤولية إعادة الإعمار وتنشيط الخدمات العمومية منوطة بهذه المؤسسة البيروقراطية المستقلة وليست من شأن الحكومة الانتقالية التي أمسكت بالحكم. أما التحدي الثالث، فيتعلق بنظام المشاركة الشعبية الذي هو مرتكز المواطَنة المدنية المتساوية، ولا يمكن اختزاله في خيارات إجرائية معينة، كالمساطر الانتخابية التي قد تغدو في بعض الأحيان خطيرةً على معايير المشاركة المدنية، ومسلكاً لتحكم المجموعات الراديكالية المنظَّمة المستفيدة من وضعية الانتقال السياسي. إن المشاركة من هذا المنظور لا تكون ناجعة ولا فاعلة إلا إذا تأسست على قاعدة المواطَنة العضوية القادرة على تجاوز الهويات الخصوصية العميقة لبناء الدولة، مع إبعاد الدين عن التوظيف الأيديولوجي والسياسي.