عرف الفيلسوف الفرنسي الكبير ميشال فوكو بأنه أهم من نقد في الفكر المعاصر علاقات المعرفة والسلطة المختفية في أجهزة الحكم، وفي الممارسات المعرفية والعلمية وأنظمة الرقابة والعقوبة، بل أيضًا في تجارب الرغبة واللذة.
ولقد كان فوكو يرى أن المجتمعات المعاصرة انتقلت من الصراع حول الهيمنة والاستغلال إلى نوع جديد من الصراع عبّر عنه بالخضوع الذاتي الذي يقوم على إنتاج هوية خاصة بالفرد يغلق داخلها وتمارس عليه الرقابة والتحكم من خلالها.
لم تعد السلطة في العصر الحاضر حسب فوكو تحتاج إلى آليات القوة والإكراه التي كانت في الماضي تفرض الولاء والإذعان للنظام المهيمن، بل إن تقنيات الضبط والترويض التي طورتها الماكينة القانونية العلمية غدت قادرة على تأمين خضوع الفرد طواعية دون أن يشعر بالقهر والضغط.
الأمر هنا متوقف على ما سماه بتقنيات الذات التي بلورتها الدولة الحديثة في الغرب في مقابل التصورات الرعوية القديمة للسلطة السياسية. في التصورات الرعوية، يكون الحاكم نمطًا من الراعي الذي يمارس سلطته على قطيع يتبع له ويتحكم فيه كليًا. الأساس هنا هو القاعدة الخاضعة وليس الأرض، وهدف الحكم هو العناية والاهتمام لا الحقوق والإرادة، والمعيار هو الذاتية المتفردة لا الكل الجماعي.
في الدولة الحديثة، تغيرت الصورة فأصبحت السلطة خفية غير ظاهرة كما تجسد ثنائية الدولة والحكم، كما أن مرتكز النظام هو المجال الإقليمي لا الكتلة البشرية في ذاتها، ومدار السياسة هو المجموع لا الفرد المتميز.
هل ما تزال تقنيات الذات اللاهوتية القديمة حاضرة في العقل السياسي المعاصر؟
نلمس هنا الاختلاف الكبير بين ميشال فوكو وتلميذه الفيلسوف الإيطالي البارز جورجيو أغامبن الذي طور أبحاثه في السياسة والقانون. لقد اعتبر أغامبن أن الدولة الحديثة استنبطت آليات التدبير الكنسي، وإجراءات إدارة وضبط الوعي والضمير في صلب نظام الحكم، بما يتجلى في صورة “الإله المطلق الخفي” الذي يتجسد في منظومة قانونية سياسية سيادية.
أما فوكو، فيرى أن الدولة الحديثة كرست قطيعة كاملة مع النموذج الرعوي القديم، من منظور المقاربة الجديدة للإقليم والأمن التي تميزها عن التجارب التاريخية السابقة. لقد أصبحت السلطة تعتمد على الضبط والترويض والرقابة الشاملة بدلًا من التحكم الإطلاقي والسيطرة المباشرة.
في هذا السياق، يقف فوكو عندما سماه بتجارب “التذويت – Subjectivation”.
في العصر الكلاسيكي القديم، لا يمكن الحديث عن مفهوم حقيقي للذات الإنسانية، فالإنسان في تلك المرحلة هو مجرد عنصر من عناصر الطبيعة أو الكوزموس. أما في العصر الوسيط، فلم يعد محور الفكر هو الطبيعة بل الإله الذي “خلق الإنسان على صورته” حسب العبارة التوراتية الشهيرة (وردت المقولة أيضًا في الحديث النبوي الشريف).
مع العصور الحديثة، حدثت قطيعة كبرى في تاريخ الفكر، فأصبحت الذات هي محور التفكير في مقابل مركزية الطبيعة. إنها ليست ذاتًا طبيعية بديهية كما هو الاعتقاد السائد، بل هي نتاج عملية تحول عميقة في مسار الفكر، أصبح من خلالها الإنسان قلب الاهتمام النظري والعلمي، لكنه اهتمام يعكس ألاعيب السلطة والتحكم. ما حدث مع تطورات العلوم الإنسانية ومناهج التسيير القانوني والسياسي، ليس بالنسبة لفوكو تحرير إرادة الإنسان وإعلان قوته ورغبته المطلقة، بل إنتاج ذاتيته في جسده قابل الترويض وفي وعيه الذي يخضع للتوجيه والتحكم.
لقد لاحظ أغامبن -بناء على أطروحة فوكو- أن الفكر القانوني والسياسي الحديث أكد أولوية الحرية ذاتيًا وتصوريًا لكي يتم التنازل عنها لصالح الدولة السيادية المطلقة. الأمر هنا يعني في نهاية المطاف إغلاق كل سبل التحرر والانعتاق ما دام المرء هو نفسه الذي يتنازل عن حريته من أجل التكيف مع متطلبات الأمن والرفاهية.
ما نخلص إليه من عرض نظرية فوكو هو أن تحويل الإنسان إلى هوية ذاتية فردية بدلًا من دوائر الانتماء الجماعية المفروضة يفضي إلى أخطر أنواع السيطرة والقهر، عن طريق الأدوات التي يفترض أنها تكرس حرية الإنسان: أي الوعي الذاتي، والرغبة، والقانون المعبر عن الإرادة المشتركة وغيرها.
في الفكر العربي المعاصر، برز جدل واسع حول جذور النزعة الإنسانية في التقليد الإسلامي، وقد اعتبر البعض أن جذور هذه النزعة قوية وصلبة في التراث الوسيط، بما يظهر في مقولات خلق الأفعال والصلاح والعدل لدى المعتزلة، وفي أطروحة مقاصد الشريعة لدى الأصوليين، وفي علم العمران الخلدوني الذي كرس التصور الطبيعي التاريخي للإنسان إلى آخره.
لقد ذهب إلى هذا الاتجاه مفكرون بارزون مثل حسن حنفي وهشام جعيط وغيرهم. في حين اعتبر وائل حلاق (متأثرًا بفوكو وأغامبن) أن الذاتية الإنسانية بالمفهوم الحديث لا تتلاءم مع التقليد الأخلاقي والشرعي الإسلامي لكونها تكرس فكرة السلطة القانونية السيادية للدولة.
في كتابه “العقل السياسي العربي”، وظف المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري مقولة “السلطة الرعوية” التي بلورها
ميشال فوكو، في إطار مقاربته للتجربة السياسية العربية الوسيطة التي اعتبر أنها تتمحور حول ثلاثية القبيلة، والغنيمة والعقيدة.
بيد أن ما غاب عن اهتمام الجابري هو ضبط أنماط تشكل الذات في التجربة التاريخية للاجتماع الإسلامي الوسيط، ونعني هنا نماذج الفردية الإنسانية موضوع السلطة والحكم، بما يمكن استكشافه في مفاهيم رئيسية مثل: الرعية والعامة، والجمهور، والجماعة والملة، وغيرها. وفي كتابات الفارابي إشارات هامة إلى هذه المفاهيم الحاضرة في النصوص الفلسفية والفقهية والأدبية على نطاق واسع.
لقد لاحظ الفيلسوف الألماني ليو شتراوس أن ما يميز الفلسفة الإسلامية الوسيطة (الفارابي على وجه الخصوص) هو معالجتها للمسألة السياسية من منطلق إشكالية الحكم الأفضل للجماعة الضامن للسعادة، بينما اختزلت السياسة في العصور الحديثة في التسيير التقني القانوني للمجتمع دون سقف معياري أخلاقي. قد لا يكون من المستساغ اليوم الرجوع إلى التصور الأخلاقي للسياسة، بيد أن المقاربة القانونية التقنية للشأن العمومي لها حدودها الموضوعية التي كشفت عنها الكتابات الفلسفية الراهنة. المطلوب اليوم هو إعادة بناء ذاتية أخلاقية مندمجة في النسيج الأهلي ضمن ضوابط الحرية وحقوق الإنسان التي هي تركة إنسانية مشتركة لا محيد عنها ولا مخرج منها.