spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

الانتماء القومي والخروج من سجن الهوية

كوامي أنتوني بياه، فيلسوف أمريكي من أصول غانية بريطانية، اشتهر في السنوات الأخيرة بكتاباته النظرية المتميزة في قضايا العدالة والانتماء، ومن أهمها كتابه “الأكاذيب التي تربطنا: إعادة التفكير في الهوية: الاعتقاد، الوطن، اللون، الطبقة، الثقافة” (صدر في لندن سنة 2018).
في هذا الكتاب، يلاحظ بياه أن قضايا النوع والعرق والدين قد غدت لها الأولوية في مطالب الحركات السياسية الراهنة على حساب التركيز التقليدي على النضالات الطبقية. وفي العالم الأنغالوساكسوني، أصبحت هذه المطالب الهوياتية هي جوهر نشاط مؤسسات المجتمع المدني.

تلك المقاربة السائدة هي ما يرفضه بياه من منظور كونها تنطلق من موقف جوهراني جامد يرى التجانس الضروري بين الأفراد الذين تجمعهم هوية واحدة. والحال أن هذه التشابهات المفترضة هي في غالب الأحيان سطحية وهامشية وغير مؤثرة في عمق الانتماء.

إن أهمية الهوية بالنسبة لبياه تكمن في طبيعة المجموعة الاجتماعية التي تسمح بتكوينها، بما يمكنها من التعبير عن نفسها بصيغة جماعية مشتركة ومحددة. إنها إذن وسيلة لتشكل المجموعة الاجتماعية وللاعتراف بالذات، كما أنها تصور قيمي يضبط سلوكيات معينة كلية. ومن هنا يتبين الطابع المزدوج للهوية في تشكلها الاجتماعي والفردي معًا، باعتبار أن الأفراد يحددون نمط انتمائهم من خلال الوعي بالهوية الخصوصية.
إلا أن الهوية تظل في نهاية المطاف متوقفة على الخيار الفردي، ويمكنها أن تجمع بين دوائر انتمائية عديدة دون إشكال. ومن هنا ندرك حقيقة تداخل الهويات عبر التحليل الاجتماعي العيني، بما يظهر مثلًا في حالات معينة مثل الجمع بين الاضطهاد العرقي والاضطهاد الجندري في بعض الساحات والبلدان.

المؤلف يخصص فصلًا كاملًا لاعتبارات اللون في تحديد الهوية، كما هو الشأن في الولايات المتحدة الأمريكية حيث يتم الحديث عن الأعراق في تصنيف مجموعات اجتماعية معينة. الأمر هنا يتعلق بتصور يكرس العقلية التمييزية، التفاضلية بين البشر، وليست له أي أسس علمية موضوعية ودقيقة.

في الاتجاه نفسه، يرفض بياه فكرة الهوية الطبقية التي تختزل محددات الانتماء في العامل الاقتصادي الذي ليس كافيًا بذاته في رصد الرهانات الاجتماعية والثقافية المعقدة. ففي غالب الأحيان، تتمايز أنماط الرأسمال المالية والاجتماعية والثقافية ويكون لهذا التمايز دور حاسم في تشكيل الروابط المجتمعية التي لا تنحصر في الخارطة الطبقية للبلد.
يخصص بياه فصلًا هامًا للهوية الثقافية، رافضًا المقولات التصنيفية السائدة مثل “الحضارة الغربية” التي لا تعبر عن واقع فعلي، بل هي نتاج التقابل والتصادم مع عوالم ثقافية أخرى مثل الجنوب أو العالم الإسلامي. بل إن عبارة “الغرب” نفسها تطرح إشكالات عصية، باعتبار أن البعض يرى أن جذور الحضارة الغربية ترجع لمصر أو المجال الفينيقي. إن عبارة “حضارة” هي في حقيقتها مصطلح مبني سياسيًا من أجل تكريس الموقف التصادمي مع الخارج الذي تتغير طبيعته بحسب الحاجة والسياق. وهكذا صنع للغرب المعاصر أساطير متخيلة من قبيل السردية الطويلة الممتدة من أفلاطون إلى الحلف الاطلسي ومن أهم محطاتها الديمقراطية الأثينية، والماغنا كارتا والثورة الكوبرنيكية وغيرها.
يرفض بياه في آن واحد نظرية الذات الفردية الأحادية التي هي قوام الفكرة الليبرالية ونظرية التعددية الثقافية التي تفرض على الإنسان حقلًا انتمائيًا عضويًا سابقًا على إرادته وحريته، معتمدًا نموذج “النقاش التفاعلي بين الثقافات” الذي يسمح للبشر بالتعارف والتعايش والتفاهم وفق رابطة كونية مفتوحة.

الأمر هنا يتعلق بإحياء النزعة الكوسموبولتية التي برزت مبكرًا في الفلسفة اليونانية، وشدد عليها كانط في العصر الحديث، لكنه يعتبر أن هذه النزعة لا بد أن تتجذر في أصول ثقافية محلية، فكل الحضارات لها أفقها الإنساني الذي يتجاوز محددات الهوية الضيقة المحدودة.

لا شك في أن أطروحة بياه التي عرضنا هنا تنطلق من خصوصية المجتمع الأمريكي الذي سيطرت عليه في السنوات الأخيرة اهتمامات الهوية والانتماء التي تحولت إلى واجهة الصراع السياسي، بيد أنها تفيدنا كثيرًا في معالجة مسألة الهوية القومية التي كانت دومًا الموضوع الأساسي للفكر العروبي المعاصر.

لم تكن مسألة الهوية مدار جدل ونقاش بالنسبة لسراة المشروع القومي العربي الذين انطلقوا من مسلّمة تلازم المحددات التاريخية والثقافية للوجود العربي وعملية الوعي بالانتماء للأمة الجامعة.

وفق هذا التلازم، تكون العروبة هوية ما قبل تاريخية وما قبل سياسية، تضع سقفًا انتمائيًا مثاليًا لا مناص منه ولا انفكاك عنه، وبالتالي فإن العمل السياسي والأيديولوجي لا يتجاوز حركية تجسيد هذا الانتماء ومنحه الفاعلية التاريخية من خلال توحيد أوصال الأمة المتقطعة.
في السنوات الأخيرة، برزت محاولات جريئة للتشكيك في مصادرة الهوية العضوية، من خلال مسارات شتى من بينها إعادة الاعتبار للهويات الاجتماعية الجزئية والتركيبة الإثنية الطائفية المركبة لجل البلدان العربية، وإبراز الجذور التاريخية للوطنيات المحلية وغير ذلك.

لا تعني هذه المحاولات الوقوف ضد مضمون المشروع القومي في ذاته، الذي لا خلاف على أهميته ووجاهته، بل التأكيد على أن معادلة الهوية ليست في ذاتها بديهية ولا تلقائية، بل هي نتاج خيارات مجتمعية وسياسات إجرائية محددة، ضمن هذا النموذج التفاعلي التداخلي الذي تحدث عنه بياه.

في السنوات الأخيرة التي عرفت انهيار العديد من الأنظمة القومية العروبية، عادت إلى السطح الهويات الوطنية المحلية التي كانت الأيديولوجيات الوحدوية تطمسها، بما يعني أن فكرة العروبة يجب أن لا تطرح في سياق تصادمي مع الهويات الاجتماعية الخصوصية، وفي مقدمتها الهويات الإثنية والطائفية التي تعبر في غالب الأحيان عن مطالب مجموعات لها حقوق ثقافية ومدنية لا يمكن إقصاؤها بمنطق الأغلبية العددية أو السياق العضوي الأعلى.

وبالمعنى نفسه، لا يمكن أن تكون العروبة فكرة نافية للرابطة الإنسانية الكونية التي هي المفهوم المحوري الناظم للحداثة، بما يقتضي تبنى الخيار الهوياتي المنفتح على العالم وعلى الثقافات الأخرى، وفق النموذج الكوسوبولوتي الذي يبشر به أنتوني بياه.

spot_img