spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

نحن وأزمة الديمقراطية الليبرالية

لا يتردد الفيلسوف وعالم السياسة مارسل غوشيه في القول إن الدول الثلاث الكبرى التي صدرت النظام الديمقراطي إلى العالم وهي فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة تشهد اليوم تحديات سياسية داخلية غير مسبوقة تهدد أنظمتها الديمقراطية. من الأدلة الواضحة على هذه الظاهرة، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ووصول دونالد ترامب للسلطة واحتمال رجوعه لها، وانهيار الأحزاب التقليدية الكبرى في فرنسا وصعود اليمين المتطرف فيها.

بالنسبة لغوشيه، ترتبط هذه التحولات بديناميكية العولمة التي تعني الانتقال من نظام كان يتمحور حول صراع الرأسمال والعمل في إطار قومي تؤدي فيه الدولة الاجتماعية مسؤولية ضبط التوازنات الداخلية، إلى نمط جديد من التنظيم الرأسمالي الكوني، حيث يتوجب على كل المجتمعات أن ينفتح بعضها على الآخر. وهكذا لم يعد المطلوب هو إدارة الصراع الاجتماعي الداخلي في إطار مجال سياسي واحد، وإنما أصبح من الضروري تسيير مقتضيات الترابط بين الداخل والخارج بالنسبة لكل مجتمع. لقد أدت هذه التحولات الجديدة إلى طرح رهانات سياسية غير مسبوقة، من بينها التباين الجلي بين المدن والكيانات المندمجة في نسق العولمة، والمستفيدة منه، والأطراف المقصية من هذا النسق والمحتجة عليه.
من الإشكالات التي طرحت في هذا السياق وضعية الطبقات الوسطى التي كانت في السابق دعامة النظام الديمقراطي، وهي اليوم في طور التحلل، نتيجة السياسات الموغلة في الليبرالية التي مزقت هوية الفرد ما بين مصير المواطن وحال المستهلك ووضع العامل، بما انعكس في الخطاب السياسي بطغيان مشاعر الغضب، والاحتجاج، والإهانة ومطالب الكرامة (خصصت سنتيا فليري عدة أعمال لهذه المشاعر آخرها كتابها “عيادة الكرامة” الصادر مؤخرًا).

حسب غوشيه، كان من الطبيعي أن يسيطر موضوع الهجرة على أجندة الخطاب السياسي في البلدان الليبرالية الغربية، لكون ملف الهجرة خرج من دلالته الاقتصادية الأصلية المرتبطة بالحاجة إلى العمالة الخارجية لتطوير الاقتصاد الصناعي، إلى الدلالة الاجتماعية السياسية، أي الهجرة بصفتها تهديدًا للهوية المحلية عرقيًا، ودينيًا وثقافيًا.

السؤال الجوهري المطروح هنا على اليمين واليسار معًا، يتعلق بتصور الأمة، بتحديد ما إذا كانت واقعًا مجتمعيًا له هويته الثابتة أم إطارًا للممارسة الشرعية للقرار الجماعي؟
ولا شك في أن مصدر هذا التحدي يتمثل في غياب أدوات سياسية وقانونية فاعلة لضبط الأطر الكونية لعالم غدا مترابط الحلقات والمصائر.

هل ما تزال الديمقراطية الليبرالية قادرة على بلورة الحلول الناجعة لأزمات المجتمعات الراهنة؟
يجيب غوشيه بالقول إن الديمقراطية تتكون من عدة مبادئ متمايزة هي: السيادة الشعبية، واحترام الحقوق الأساسية، وحكم الأغلبية ومراعاة الأقليات، والإطار الوطني والمواثيق الدولية.

المشكل الكبير يكمن في ضبط العلاقة بين هذه المبادئ التي قد تتنافر في بعض الحالات: فالسيادة الشعبية هي شرط الإرادة الجماعية المشتركة، إلا أن الشعب يتكون من أفراد لهم حقوق ومن دون هذه الحقوق الجوهرية لا سبيل للديمقراطية. أما الانتخاب التعددي الحر فهو التجسيد الوحيد المتاح لهذا الحق، رغم ما يفضي إليه من ثنائية الأغلبية العددية والأقلية المغبونة.
أزمة الديمقراطية الحالية تكمن أساسًا حسب غوشيه في صعوبة التوفيق بين القرار الجماعي والحقوق الفردية، باعتبار أن المستفيدين من العولمة هم الذين غنموا من نظام الحريات الفردية، في حين شعر المغبونون بالحسرة والإقصاء من الحقل السياسي فتمسكوا بمبدأ السيادة القومية والهوية المهددة.

وهكذا يغدو المأزق الراهن هو التعارض بين خطاب حقوقي أصبح خارج أطر التحكم السياسي، يستند إلى عقلانية كونية ما فوق وطنية، وخطاب شعبوي يدافع عن السيادة من منظور هوائي ضيق قد يؤدي إلى إفراغ الممارسة الديمقراطية من مضمونها الحقيقي.

قدمنا هنا أطروحة مارسل غوشيه حول أزمة الديمقراطيات الليبرالية الغربية، وهي في عمومها تتركز في إشكاليتين أساسيتين هما التعارض بين نظام الحريات والمشاركة داخل أمم تحكمها قيم مدنية قومية، ونظام العلاقات والمصالح والالتزامات الدولية الذي فرضته حركية العولمة المتنامية، والتعارض بين الجوانب السيادية في الممارسة الديمقراطية من حيث هي تعبير عن إرادة الأمة المشتركة والجوانب القانونية والحقوقية التي تتعلق بالأفراد في نظام يتأسس على أولوية حرية واستقلالية الفرد.

لو حاولنا تنزيل هذه الإشكاليات في واقعنا العربي الحالي الذي يعاني من انتكاسة النظم الديمقراطية وتعثرها، لظهر لنا أن الإطارين اللذين ينتظمان النسق الديمقراطي غائبان إلى حد بعيد، سواء أتعلق الأمر بالتصور السيادي المدني للأمة كرابطة وطنية تتأسس على الإرادة المشتركة، أم تعلق بمنظومة الحقوق الأساسية التي كثيرًا ما تلغى وتقصى باسم الاعتبارات الثقافية والمعيارية والخصوصية الحضارية.

في المستوى الأول، ما تزال التصورات العصبية والقبلية سائدة في تحديد الجسم السياسي للدولة التي هي أقرب لما أطلق عليه بعض علماء الاجتماع الأفارقة “كتلة هيمنة فاعلة” من كونها رابطة مدنية مجتمعية.
قبل سنوات، أصدر بعض السياسيين والمفكرين العرب كتابًا بعنوان “ديمقراطية من دون ديمقراطيين”، خلصوا فيه إلى أن المطلب الديمقراطي يفتقر في العالم العربي إلى القوة الحاضنة والمؤثرة، وقد اعتبر البعض أن هذه القوة هي الطبقة الوسطى التي كانت الكتلة الدافعة للديمقراطية في المجتمعات الليبرالية العالمية، في حين ذهب آخرون إلى أنها الانتلجنسيا المتنورة القادرة على قيادة المجتمع في مسار التغيير والتقدم. وبعد موجة “الربيع العربي” الأخيرة، كشفت الأحداث عن هشاشة وضعف البنيات السياسية والبيروقراطية المركزية التي انهارت في العديد من الساحات التي عرفت منعرج التحول.

وبخصوص الجانب الثاني، أشار بعض الباحثين إلى غياب ثقافة حقوقية مكينة وقيم ليبرالية فردية فاعلة في النسق السياسي العربي، بما انعكس سلبًا على مسارات الانتقال السياسي التي أفضت إلى أنماط جديدة من السلطوية والأحادية، ولو باسم الديمقراطية واحترام إرادة الشعب.

لقد راهنت بعض القوى السياسية العربية بعد نهاية الحرب الباردة على ضغوط الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي في الأجندة الغربية من أجل إحداث التحول الديمقراطي المنشود في العالم العربي، لكن الأزمة الحادة التي تمر بها حاليًا الليبراليات الغربية الكبرى خلقت واقعًا جديدًا من سماته الظاهرة تراجع خيار تصدير الديمقراطية في الخارج من حيث هي الوجه الآخر للعولمة الرأسمالية المتصاعدة.

spot_img