في مجلة «نيو ستسمان» البريطانية، كتب عالِم السياسة الانجليزي «جوناتان وايت» أن وسائل التواصل الاجتماعي الراهنة قد غيرت نوعياً مؤسسة صنع القرار في العالم الديمقراطي، وقضت على الطابع المؤسسي والرسمي لفن الحكم وقوضت هالته الرمزية. بطبيعة الأمر، ليس استخدام تقنيات الاتصال بالجديد في عالم السياسة، من المطبعة إلى التلغراف انتهاء بالبريد الإلكتروني اليوم. ولذا فإن الهواتف الذكية تندرج في السياق ذاته، ولا يمكن لأحد أن يستغني عنها في الوقت الحاضر.
ولقد أظهرت جائحة كورونا في الأعوام الماضية الحاجة الحيوية إلى هذه التقنيات الإلكترونية من أجل تعميم المعلومة ونشر الإنذارات وتكثيف الرقابة العامة. بيد أن هذه المزايا تصاحبها أحياناً كثيرة سلبيات وتجاوزات عديدة، ناتجة عن طبيعة أدوات الاتصال الجديدة، التي تقوم على سمات الفورية والعفوية، بما يؤدي في بعض الحالات إلى الحد من جديتها وصدقيتها.
من هذه التجاوزات، أن هذه التقنيات تمنح مستخدميها سلطة مطلقة غير محدودة، بحيث يستغني كبار المسؤولين عن أعوانهم ومساعديهم، فينتفي منطق التنسيق والوساطة الضروري في العمل الإداري الرصين. وهكذا يتم إلغاء التمييز الجوهري بين الشخص والوظيفة، ويجري القضاء على الشكليات الرمزية للسلطة التي كانت في السابق تتمحور حول صيغ اللبس ونمط تدبير المكان وما تكفله من إلغاء الطابع الشخصي للوظيفة العمومية ومنحها إطاراً مؤسسياً مجرداً. صحيح أن تقنيات التواصل الراهنة فعالة وسريعة، إلا أنها لا تخلو من مخاطر جسيمة، من أهمها سهولة تتبعها بما يعرض مضامين التراسل للتسرب والوصول إلى عامة الناس، انتهاكاً لمبدأ الاختصاص الوظيفي وسرية المعلومات الحساسة. حسب وايت، يميل السياسيون الغربيون اليوم إلى شرعية الإنجاز السريع بدلاً من شرعية النهج الديمقراطي، غير مدركين أنهم بالاستخدام المفرط لتقنيات الاتصال الجماهيرية يؤثرون سلباً على طبيعة النظام الديمقراطي نفسه.
وهكذا تبدو العلاقة بديهية بين هذه التقنيات وانهيار الأحزاب السياسية والأنساق الأيديولوجية وطغيان ما يدعوه «التقنو شعبوية». يختم وايت أطروحته بالتنبيه إلى فشل كل الخطط والسياسات الرامية إلى مراقبة وتقنين التواصل السريع عن طريق الهواتف الذكية، منتهياً إلى ضرورة مضاعفة مقتضيات الشفافية والمشاركة في القرار العمومي، بالاستخدام السليم والناجع للتقنيات الإلكترونية الراهنة.
ما نريد أن نبينه هو أن إشكالية العلاقة بين الأدوات التقنية والخطاب العمومي ليست بالجديدة، وهي موضوع علم «الميديولوجيا» الذي أسسه الفيلسوف الفرنسي رجيس دوبريه وأراد من خلاله دراسة الارتباطات الكثيفة والمعقدة بين تقنيات الحفظ والبث والتداول من جهة وأنماط الاعتقاد والفكر والتنظيم من جهة أخرى. ولا شك أن أهم هذه الأدوات التقنية عبر التاريخ هي الكتابة التي ظهرت في القرن الرابع قبل الميلاد، وقد طرحت إشكالات نظرية مماثلة للأسئلة الراهنة التي تطرحها الثورة الرقمية الجديدة. في محاورة «فيدروس»، يذهب أفلاطون إلى القول إن الكتابة دخيلة على الفكر، لا تفيد شيئاً، بل تضعف الذاكرة وتلغي التفكير وتقضي على المعنى.إلا أن العديد من التحولات الجوهرية التي عرفتها الإنسانية ترتبط مباشرة بالكتابة مثل الدولة المركزية والاقتصاد النقدي (الشكل الأول للعولمة) والديانات الرسالية (الخطاب الإلهي عن طريق الكتاب المنزل).
ولقد ظهرت المطبعة في أوروبا في القرن الخامس عشر، مجسدة أولوية المقروء على الشفهي، ومدشنة آفاقاً جديدة للثقافة وللفكر، في مقدمتها الإصلاح الديني والدولة القومية السيادية والتحديث العلمي والتقني وانبثاق أيديولوجيا التقدم والنزعة الوضعية العلماوية. وكما كان سؤال أفلاطون هو كيف تمكن غربلة وتصفية السيلان اللغوي الكثيف الذي يجعل من الصعب الفصل بين الحقيقة والوهم، وكان سؤال ديكارت ولايبنتز في العصر الحديث كيف يمكن تعويض لغة الخطاب الميتافيزيقي بأدوات صورية دقيقة بحسب نموذج الرياضيات الشاملة، أصبح السؤال اليوم هو كيف يمكن إنقاذ مفهوم الحقيقة الموضوعية وغير المتحيزة في فضاء تواصلي مفتوح لا مرجعية له ولا محددات ضابطة لشبكته التواصلية السريعة. لقد لاحظ جاك أتالي، الكاتب والمنظر الفرنسي، أن التقنيات الرقمية الجديدة ألغت عملياً الكتابة واستبدلتها بعلامات التواصل التواضعية التي لا لغة لها، كما عوضت مناهج السؤال والنظر والنقد والتحليل بالإشارات الانفعالية من إعجاب وسخط ونفور، بما يشكل تحولاً نوعياً في الثقافة البشرية نفسها.
في هذا السياق، ندرك تأثير هذه الظاهرة في الميدان السياسي على مستويين متمايزين: مستوى القرار والحكم حيث يغدو التدوين والتعليق أداة للسلطة وإدارة المجتمعات، ومستوى الرأي العام الذي تتحكم فيه النزعات الشعبوية التي تحركها المشاعر والانفعالات السريعة.