هل لا زلنا في أفق الحداثة السياسية أم خرجنا منه عمليًا؟
يرى عالم السياسة بيار روزنفالون أن التقليد السياسي الحديث يتوزع إلى ثلاثة اتجاهات كبرى هي: الليبرالية الاسكتلندية التي بلورها آدم سميث حول فكرة السوق الحرة من حيث هي مبدأ نظام العلاقات الاجتماعية، ونظرية العقد الاجتماعي من هوبز إلى روسو التي تعتبر السياسة تأسيسًا للحالة الاجتماعية عن طريق المواثيق التي يتفق حولها الأفراد، والنزعة المحافظة الفرنسية التي برزت في القرن التاسع عشر وكان غيزو من أعلامها الأساسيين في اعتبارها الرابطة الاجتماعية نتاج الحكم التنفيذي وليس الرأسمالية الطوبائية أو ميثاق القانون الطبيعي.
بيد أن روزنفالون يرى أن التيارات الثلاثة فشلت في تصور طبيعة المجتمع السياسي الحديث القائم على عملية تشكله الذاتي، فالتعاقدية ليست سوى مجرد نظرية افتراضية لا دليل عليها، أما ليبرالية السوق فقد ثبت أنها فكرة مثالية لا تستند إلى الواقع الفعلي، في حين من الواضح أن النزعة المحافظة تتسم بالرجعية وعدم الديمقراطية.
لا يتعلق الأمر فقط بالاتجاهات الفكرية والايديولوجية التي أنتجتها الحداثة السياسية، بل بالمؤسسات والنظم أيضًا، من دولة الرفاهية التي هي الاستمرار التاريخي لفكرة الدولة الحامية وهي اليوم في أزمة عميقة، أو بالهياكل الديمقراطية التي فقدت شرعيتها، سواء تعلق الحال بالمساطر الإجرائية الانتخابية أو بالمضامين الجوهرية المتعلقة بالعمل السياسي الذي فقد أهميته والاهتمام به.
إن المقولات التي تستخدم عادة للتفكير في الشأن السياسي لم تعد فاعلة ولا رصينة، مثل مقولة الشعب التي يفترض أن تكون مبدأ سياسيًا وواقعًا اجتماعيًا، ومقولة السيادة بصفتها أساس السلطة السياسية في حين أنها غامضة لكونها مبدأ سياسيًا مجردًا وشكلًا من أشكال الحكم في الوقت نفسه.
بطبيعة الأمر يتحدث روزنفالون عن الحداثة السياسية الغربية لا عن واقعنا في المجتمعات العربية، بيد أن أفكاره تستوقفنا في مستويات أربعة كبرى :
أولًا: في المحاولات السائدة لتأسيس الانتقال الديمقراطي في عالمنا العربي، يغيب إلى حد بعيد الحوار الجوهري المتعلق بقاعدة ومرجعية البناء الاجتماعي المنظم الذي هو أساس ومقوم السلطة السياسية. ففي حين تختزل عادة السردية الليبرالية في النظام الاقتصادي الحر دون أن يترتب عليها تفكير معمق في طبيعة الحرية السياسية من حيث جوانبها القانونية الفردية وتشكلها المجتمعي، تختزل النظرية التعاقدية في دلالتها الوصفية التحليلية من حيث هي نموذج للتفسير والفهم وليست أطروحة معيارية يترتب عليها شكل النظام السياسي نفسه، أما النزعة المحافظة فلا تدرك إلا من منظور الخصوصيات الثقافية والمجتمعية التي تبرر الاستثناء والتميز. ومن هنا يمكن القول مع المفكر المغربي عبد الله العروي إن مفهوم الدولة نفسه هو المدخل إلى تفكيك أزمات الحقل السياسي العربي .
ثانيًا: لقد ولدت ديناميكية ما عرف بالربيع العربي آمالًا جارفة بكسر ما أطلق عليه المستشرق المعروف برنارد لويس “الاستثناء الشرق أوسطي”، ويعني به تفرد البلدان العربية الإسلامية من بين بلدان العالم كله بالتسلطية، والاستبداد والأنظمة الأحادية. ومع الإقرار الواسع بفشل حركية الربيع العربي، يتجدد السؤال القديم حول مدى صحة ووجاهة “المطلب الديمقراطي” في المجتمعات العربية، لا بمعنى الاتهام العنصري الزائف للشخصية العربية بالأبوية السلطوية والسلطانية الاستبدادية (أطروحة ماكس فيبر)، وإنما بالتساؤل هل تشكل قيم الفردية المتمحورة حول ذاتها، والتعاقد الصوري والعدالة القانونية الاستحقاقية شروطًا كافية لحل المسألة السياسية في مجتمعاتنا العربية بتركيبتها الخاصة وخصوصياتها المميزة؟
ثالثًا: إذا كانت دراسات وأبحاث رزنفالون كشفت عن أوجه القصور في الممارسة الديمقراطية الغربية، من حيث الأدوات الإجرائية (الانتخابات النيابية)، ومن حيث متطلبات الشرعية السياسية والقاعدة الاجتماعية للسلطة السياسية، فإنه من البديهي أن هذه الإشكالات أكثر تعقيدًا وصعوبة في الديمقراطيات الناشئة التي عادة ما تكون فيها اللحظة الانتخابية طقسًا شكليًا لإعادة إنتاج نفس النظام السياسي، كما تكون فيها المؤسسات الدستورية والقانونية عاجزة عن حسم معضلة الشرعية السياسية. ومن هنا ضرورة التفكير في الأدوات والطرق الكفيلة بتحسين شروط وضوابط التمثيل والشرعية التي هي مقاييس صحة النظم الديمقراطية، بدلًا من العمل العقيم على تحسين الفاعلية الإجرائية للماكينة الانتخابية، واستنساخ منظومات قانونية من خارج سياقها .
رابعًا: لم تستطع النظريات الديمقراطية التي تبلورت في الفكر السياسي الغربي حسم الإشكالية المعقدة المتمثلة في ضبط مرجعية السلطة الحاكمة، باعتبار أنها نظرت إليها إما كتعبير زائف عن إرادة جماعية بما ينفي مفهوم الحكم ذاته، أو كتدبير تفويضي مؤقت لا يصل إلى سقف الحكم في دلالته الفعلية، مع الإقرار البديهي أن نظرية الفصل بين السلطات هي مجرد فرضية مثالية لا تتلاءم مع واقع النظم السياسية الحديثة. في مجتمعاتنا العربية، تتعزز وتتزايد الحاجة إلى الدولة من حيث هي منظومة حكم قهرية وأمنية أكثر من الحاجة إليها أحيانًا كمنظومة تضامنية اجتماعية، بما يعني أن الزمن السياسي بصفته ضمان السلم الأهلي والاستقرار المدني قد لا يتلاءم مع ديناميكية الحريات القانونية والمؤسسية .
في سياق الأزمة السياسية الحادة التي تمر بها فرنسا حاليًا على غرار بلدان غربية أخرى غدت عاجزة عن تأمين الاستقرار السياسي والاجتماعي من خلال آلية الانتخاب التعددي، طرح بعض المفكرين السياسيين خيار إخراج المؤسسات العمومية الأساسية التي تتوقف عليها حياة المواطن اليومية من التجاذبات السياسية. وفق هذا التصور، المهم في النظام الديمقراطي هو المجال العمومي الذي تضبطه القوانين الثابتة الكونية وتجسده المرافق المشتركة، ومن ثم ضرورة التوسع في هذه الهياكل المؤسسية المستقلة بحيث تتقلص الحاجة إلى الآلية الانتخابية التي غدت -في غياب الأحزاب القوية- عاجزة عن ضبط إيقاع الزمن السياسي، بما يفسر الإحجام المتزايد عن لحظات الاقتراع والتنافس الانتخابي.
إن هذه الملاحظة تبدو هامة وجوهرية في حياتنا السياسية العربية، حيث عادة ما تفضي العملية الانتخابية المفتقدة لسقف ثابت من التوافقات العمومية الأساسية إلى تقويض السلم الأهلي وتأجيج الاحتقان السياسي والاجتماعي.