شهدت الأيام الأخيرة زيارتين مهمتين للملك البريطاني تشارلز الثالث، والرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، للقارة الإفريقية، الأول زار المستعمرة البريطانية السابقة كينيا، والثاني زار المستعمرة الألمانية السابقة تنزانيا، كما زار كذلك زامبيا التي كانت تستعمرها المملكة المتحدة.
وتأخذ الزيارتان أهميتهما بالنظر إلى السياق الإفريقي الذي تأتيان فيه، حيث باتت شعوب القارة تتطلع إلى الانعتاق والتحرر مما تعتبره “استعمارا حديثا”، وتسعى إلى الندية في التعاطي مع من كان يستعمرها في السابق.
وقد بلغ الأمر حد أن فرنسا مثلا التي كانت تبسط كامل نفوذها على جزء واسع من منطقة الغرب الإفريقي، وتعتبرها منطقة حضورها التقليدي، تم طردها من مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر.
في هذا السياق الإفريقي المتطلع لعلاقات دولية، لا فوقية فيها ولا تبعية، كانت كينيا أول بلد من بلدان رابطة الكومنولث يزورها تشارلز الثالث منذ توليه المنصب كملك، بعد رحيل الملكة إليزابيث الثانية، التي تعود آخر زيارة لها إلى نيروبي عام 1983.
ودون أن يعتذر، رغم المطالبات الواسعة في كينيا قبل زيارته بضرورة الاعتذار عن الماضي الاستعماري لبلاده، وما حمله من انتهاكات وأعمال عنف، عبر تشارلز الثالث عن أسفه للانتهاكات الاستعمارية التي ارتكبتها بريطانيا في هذه الدولة الواقعة بشرق القارة الإفريقية.
واعتبر تشارلز أن بلاده “ارتكبت أعمال عنف شنيعة وغير مبررة ضد الكينيين أثناء خوضهم نضالا مؤلما من أجل الاستقلال والسيادة”، مؤكدا أن “لا شيء يمكن أن يغير الماضي، ولكن من خلال التطرق إلى التاريخ بنزاهة وانفتاح، ربما يمكن إظهار قوة الصداقة اليوم، وبذلك يمكن الاستمرار في بناء علاقة أوثق للسنوات المقبلة”.
ورغم أن خطوة تشارلز، جاءت دون تطلع العديد من الكينيين، إلا أن رئيس البلاد وليام روتو رحب بها، واعتبرها “شجاعة” ومهمة نحو “تقدم أبعد من التدابير غير الحاسمة والمبهمة في السنوات الماضية”.
وسبق أن وافقت بريطانيا في عام 2013 على دفع تعويضات لأكثر من 5 آلاف كيني من ضحايا قمع ثورة “الماو ماو” ضد القوة الاستعمارية البريطانية، والذي خلف أكثر من 10 آلاف قتيل بين عامي 1952 و1960.
وفيما اكتفى تشارلز بالإدانة عن الماضي الاستعماري لكينيا، اعتذر الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير عن عمليات القتل التي وقعت خلال الحقبة الاستعمارية في تنزانيا أثناء الحكم الألماني، قبل وبعد بداية القرن العشرين، حيث شهدت البلاد واحدة من أكثر الانتفاضات دموية في المنطقة بين عامي 1905 و1907.
وتفيد بعض الأرقام بأن الثورة التنزانية المعروفة باسم انتفاضة “ماجي ماجي” قتل فيها ما بين 200 ألف إلى 300 ألف من السكان الأصليين، كما قامت القوات الألمانية بمسح بعض القرى بشكل منهجي.
وعلى إثر ذلك كانت تنزانيا قد أعلنت عام 2017 في عهد الرئيس الراحل جون ماغوفولي، أنها تدرس اتخاذ إجراء قانوني للحصول على تعويضات من ألمانيا للأشخاص الذين تعرضوا للتجويع والتعذيب والقتل على يد قواتها.
وقد قطعت ألمانيا خلال السنوات الأخيرة خطوات نحو التصالح مع بعض الدول الإفريقية، إزاء الفظائع التي ارتكبتها إبان الحقبة الاستعمارية، كما فعلت مع ناميبيا، حيث اعترفت بأن قواتها ارتكبت جرائم إبادة جماعية خلال فترة الاستعمار، ووافقت حكومتها على دفع تعويضات مالية للمتضررين من ذلك.
ومن شأن هذه الخطوات التصالحية أن تعزز مكانة البلدين في القارة الإفريقية، فبالنسبة لبريطانيا تهتم كثيرا بالقارة منذ خروجها من البريكست، وقد تعزز التبادل التجاري والاقتصادي بين الطرفين منذ ذلك الوقت.
كما أن ألمانيا عززت اهتمامها بإفريقيا بشكل كبير منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وذلك من أجل الحصول على بدائل عن الغاز الروسي، ولذلك فإن أغلب الدول الإفريقية التي زارها شتاينماير أو المستشار أولاف شولتس خلال العامين الأخيرين، هي إما دول منتجة للغاز، أو مقبلة على إنتاجه.