spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

زكي نجيب محمود والنهضة العلمية العربية

قبل ثلاثين سنة، رحل الفيلسوف المصري المعروف زكي نجيب محمود (في أيلول/سبتمبر 1993) الذي تميز بكونه أول من أدخل الفلسفة الوضعية المنطقية إلى الساحة العربية منذ الخمسينيات، في مرحلة مبكرة من انتشار هذه الأفكار في العالم.

والمعروف أن الفلسفة الوضعية تقوم على منطلقين أساسيين هما: فكرة الحالة العلمية في مسار تطور العقل البشري كما صاغها أوغست كونت، وفكرة التحقق التجريبي التي ميزت التيار التحليلي المنطقي الأنغلوساكسوسني.

في كتابه “دروس في الفلسفة الوضعية” (1830-1842)، يبلور كونت أطروحته الفلسفية من منظور النتائج المستمدة من الثورة العلمية التقنية المعاصرة، التي تعتبر أنها فرضت على العقل البشري التخلي عن المطلقات لعجزه عن الوصول إلى جوهر الأشياء، ومن ثم يتوجب عليه أن يكتفي بالقوانين التجريبية التي هي وحدها دقيقة وصحيحة. ولقد ذهب كونت إلى أن العقل البشري مرّ تتابعًا بثلاث حالات هي: الحالة اللاهوتية، ثم الحالة الميتافيزيقية ثم الحالة الوضعية التي هي محطة اكتمال ونضج الفكر الإنساني. ولاستكمال المنهج الوضعي، طرح كونت الأدوات الأولى لتأسيس علوم إنسانية وضعية على غرار العلوم الطبيعية والحية، يكون هدفها هو دراسة ما سماه بالفيزياء الاجتماعية.

أما الوضعية المنطقية التي ارتبطت بحلقة فيينا في الثلاثينيات، فقد أضافت إلى الفكرة الوضعية التحليل المنطقي للقضايا من منظور مرجعية الواقع التجريبي في جوانبه الحسية الأولية والمركبة، وصولًا إلى التمييز الدقيق بين القضايا عديمة الدلالة وهي الأحكام الميتافيزيقية والمعيارية، والقضايا الدالة التي يمكن التحقق منها تجريبيًا.

لقد أدخل زكي نجيب محمود هذه الأفكار الثورية إلى الساحة العربية بلغة مبسطة واضحة تجمع بين الأسلوب الأدبي والكتابة الصحافية، وشكل كتابه “خرافة الميتافيزيقا” الصادر عام 1953 مرحلة أساسية من مشروعه الفلسفي.

في هذا الكتاب، نقرأ عرضًا مفصلًا لنقدية كانط، قبل استعراض الفلسفات الوضعية المنطقية لدى كبار أعلامها مثل مور وراسل وكارناب. ومنذ بداية الكتاب (في مقدمته وفصله الأول)، يتبنى زكي نجيب محمود مقاربة الفلاسفة الوضعيين في قولهم إن الفلسفة لا علاقة لها بتفسير الكون ووصفه وإنما تنحصر مهمتها في تحليل الأفكار والعبارات لتحديد صلوحيتها المنطقية. ومن هنا، رفض الميتافيزيقا لكونها “كلمات لا ترمز لشيء مما تقع عليه حواس الإنسان إمكانًا وفعلًا”.

وقد أثار هذا الكتاب جدلًا واسعًا، بما أدى بالمؤلف إلى مراجعة عنوانه ليصبح “موقف من الميتافيزيقا”، موضحًا الفرق بين الميتافيزيقا التي هي نمط من التفلسف خارج مقاييس التحقق التجريبي، والدين من حيث هو اعتقاد وتسليم لا يواجه الفلسفة في حقلها النظري. كما أن القيم والأخلاق وإن كانت لا يمكن أن تكون موضوع نظر فلسفي وضعي، إلا أن مدارها هو الثقافة والأعراف وليس الفلسفة.

في كتابه “تجديد الفكر العربي” الذي صدر عام 1971، يراجع زكي نجيب محمود موقفه السلبي من التراث، متعللًا يجهله سابقًا، منتهيًا إلى نفس الإشكالية التي شغلت مفكري المسألة التراثية من العرب، بما صاغه بتساؤله: “كيف نوائم بين ذلك الفكر الوافد الذي بغيره يفلت منا عصرنا أو نفلت منه، وبين تراثنا الذي بغيره تفلت منا عروبتنا أو نفلت منها؟”.

لكن زكي نجيب محمود وإن كان خلص إلى ما درج عليه المفكرون العرب من نزعة توفيقية بين التراث والحداثة، إلا أنه ظل وفيًّا لمقاربته البرغماتية الوضعية، باعتماد معيار “العملية وقابلية التطبيق” في غربلة النصوص التراثية وصياغة مضامينها الحية في لغة العصر السائدة.

يمكن أن نصنف مشروع زكي نجيب محمود في إطار ما سماه عبد الله العروي “داعية التقنية”، وهو أحد الوجوه الإصلاحية الثلاثة في الفكر العربي الحديث. لكن ما ميز محمود هو تبني الإشكالات الإبستمولوجية في قراءة وتقويم المرجعيات التراثية، بما أفضى به في البداية إلى القول بالقطيعة الحاسمة مع “تراث اللامعقول العربي” قبل أن يعتمد موقفًا منفتحًا على التقليد الإسلامي من منظور يجمع بين الفكر العلمي الموضوعي والروحانية الدينية.

لا يمكن فصل التحول الفكري الكبير في مشروع زكي نجيب محمود عن مصير الفلسفة الوضعية نفسها في السياق الغربي، حيث تعرضت لمراجعات نقدية صارمة، تم بعضها على يد رموزها من أمثال فتجنشتاين. لقد تعرض مفهوم التحقق التجريبي لنقد جذري إلى حد أن الفيلسوف النمساوي-البريطاني كارل بوبر قال إن ما يميز الخطاب العلمي هو قابلية التكذيب والتفنيد لا التحقق، وأن العلم لا صلة له بالحقيقة واليقين، بل تكون قوانينه مقبولة ملائمة صالحة مؤقتًا وفق الأساليب والسياقات التجريبية التي هي حصيلة البناء والتصرف في الطبيعة، لا الكشف عن ثوابت انتظام القوانين في الواقع.

لقد ذهبت المدرسة النقدية الألمانية شأوًا بعيدًا في هذه المقاربة، فاعتبرت أن العلم لم يعد قادرًا على تحرير الإنسان وتمكينه من السيطرة على الطبيعة، بل أضحى خطرًا على حرية الإنسان، وكرامته وبقائه. ومن ثم ذهب فلاسفة مدرسة فرانكفورت إلى أن العلم والتقنية ينتميان للحقل الأيديولوجي وهما موجهان بالمصلحة والمنفعة ومن ثم لا يصلحان لأن يكونا مقياس تقويم المعارف والحقائق.

لا شك في أن زكي نجيب محمود اطلع على هذه الأفكار النقدية للعلم والتقانة، لكنه ظل مؤمنًا إيمانًا عميقًا بضرورة تحقيق الشروط الفكرية والمجتمعية للنهضة العربية التي لا يمكن أن تقوم دون الثورة العلمية والتقنية على الطريقة الغربية.

ما يتعين التنبيه إليه هو أن الثورة العلمية التي كان يتحدث عنها زكي نجيب محمود في النصف الثاني من القرن العشرين قد تلتها ثورة جديدة تختلف عنها نوعيًّا في التوجهات والنتائج كما تختلف في المقومات الإبستمولوجية والفكرية.

لقد أصبح السؤال المطروح اليوم بقوة هو: هل يمكن للعرب الذين فشلوا في تحقيق الثورة العلمية الأولى أن يدخلوا مباشرة إلى العصر العلمي والتقني الراهن المستند إلى الذكاء الاصطناعي، والتصرف الجيني والاقتصاد اللامادي، من دون أن يمروا بالحقبة العلمية السابقة التي اتسمت بأفكار ترويض الطبيعة وتطبيق المنهج التجريبي على الظواهر المادية وتمديده إلى الحقل الإنساني؟

أ.د السيد ولد أباه / مفكر موريتاني

spot_img