spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

زلزالُ المغرب.. بعيون فلسفية

  1. كنت في المغرب عندما حدث زلزال الحوز الذي شعر به أغلب سكان البلاد، وكان مؤلماً بما خلَّفه من قتلى وضحايا، وإن كانت الهبّة التضامنية التي أظهرها المغربُ، ملكاً وشعباً، مع المنكوبين فاقت الخيالَ من حيث السرعة والفاعلية. بعد زلزال المغرب مباشرةً عاشت مدينةُ درنة الليبية ساعاتٍ عصيبةً إثر الإعصار الذي ضربها مخلفاً آلاف القتلى والمفقودين. ومن قبل هذين الحدثين المأساويين ضرب الزلزال المدمر جنوب تركيا وشمال سوريا في فبراير الماضي وكانت نتيجتُه مريعةً وصادمةً.

وقد عرفتْ دولة هايتي حدثاً مماثلا عامَ 2010 قوَّض كثيراً من مظاهر الحياة العمرانية في هذه الدولة اللاتينية الأميركية الكاريبية الفقيرة.الأعاصير والزلازل من الكوارث الطبيعية التي تهز كينونةَ الإنسان بقوة وتحْمله على إعادة التفكير في مصيره، ومن ثم تختلف عن المصائب المتوقعة أو المألوفة. إنها امتحان قوي للعقل، إلى حد أن الفيلسوف الفرنسي بول ريكور تحدث عن «مفارقة الشر الطبيعي» التي عجز اللاهوت والفلسفة عن حلها، معتبِراً أن المطلوب ليس هو تفسير الكوارث بل مواجهتها بالتضامن مع المنكوبين ومساعدتهم في لحظة الجزع.

عندما وقع زلزال لشبونة الشهير في عام 1755، والذي قضى على ربع سكان المدينة، ووصلت آثارُه الارتداديةُ العديدَ من المدن المغربية أوانها، قرأنا المناظرة الشهيرة بين الفيلسوفين فولتير وروسو حول هذه الكارثة الكبرى التي نظر أولهما إليها من زاوية «عنف الطبيعة» في حين اعتبر الآخر أنها نتاج قصور الإنسان وأخطائه.

ليس من همنا هنا دخولُ هذا الحوار النظري الميتافيزيقي العقيم، كما أننا كمسلمين غير معنيين بعقيدة «الخطيئة الأصلية»، وإنما حسبُنا الإشارة إلى أن الكوارث الطبيعية التي عرفتها البشرية في السنوات الأخيرة طرحت أسئلةً غير مسبوقة بخصوص قدرة الإنسان على التحكم في نظام الطبيعة وترويضه، وتلك هي خلفية العلوم التجريبية وفكرة التقدم التاريخي للبشرية التي بنيت عليها الحداثة. عندما حدثت جائحة كورونا قبل أربع سنوات، ساد انطباع واسع بأن العلوم الطبية قادرة على مواجهة هذه الهجمة الفيروسية غير المسبوقة، كما أن التقنيات الاتصالية وفرت بالفعل بدائلَ ناجعةً عن التلازم المكاني والتجاور المباشر في قاعات الدرس والعمل. وهكذا أمكن في فترة قياسية السيطرة على هذا الوباء الذي اجتاح كلَّ أركان العالم. الأمر مختلف بالنسبة للكوارث الطبيعية مثل الزلازل والفيضانات، بما تتميز به من خاصية المفاجأة وعدم التوقع.

وكما يقول الفيلسوف مايكل فوسل، فإن الكوارث تعرِّض وجودَ الإنسان بكامله للخطر، من حيث هي خارج أفق التفكير قبل وقوعها وعندما تقع تعمي وعي الإنسان فيظل مشدوداً إليها دون تبصر أو تفسير. وفي ما وراء تلك الدلالة الوجودية الجذرية، يمكن أن ننظر في نمط الاستجابة للكوارث الطبيعية إلى ظواهر ثلاث أساسية، لمسناها بقوة في التجربة المغربية الأخيرة.

أولى هذه الظواهر هي حضور الدولة الوطنية المركزية الذي يبلغ مداه في ذروة الكارثة، بما يعزز ولاء القاعدة الشعبية العريضة لسلطة الرعاية المخولة حقَّ التدخل السريع لإنقاذ الضحايا وإعانة المنكوبين. خارج وقت الكارثة، لا يشعر الكثيرون بالحاجة الموضوعية إلى الدولة، كما أن حضورها الفعلي قد يكون هامشياً ومحدوداً في بعض اللحظات والمواقع، لكن الأمر يتغير ساعة الاستجابة للكوارث، حيث يتركز كلُّ دورِ الدولة وقوتها في المناطق المتضررة ولو كانت في العادة محدودةَ الأهمية.

أما الظاهرة الثانية فتجلت في القيم التضامنية لدى المجموعات والأفراد بما لمسناه بوتيرة استثنائية في المغرب مؤخراً. وكان الفيلسوف الألماني الشهير هيغل يقول إن الحروب ضرورية من «أجل الصحة الأخلاقية للشعوب»، ويمكن تمديد هذه الأطروحة على الكوارث التي تشد اللحمةَ الوطنية إلى حد الإيثار والتضحية، وهي مشاعر تقلَّصت إلى حد بعيد في المجتمعات الحديثة التي غلبت عليها الأنانية الفردية والنزعة النفعية الاستهلاكية. وأخيراً تمثلت الظهرة الثالثة في الوعي بضعف الإنسان وهشاشته، وهذا الوعي -وفقاً لأمانويل لفيناس- هو مصدر الفعل الأخلاقي نفسه بما يقوم عليه مِن قيم الرفق والمودة والتعاطف.

ومعلوم أن النظم السياسية والمدنية الحديثة تأسست على فكرة المساواة ضمن حقوق الحرية المتكافئة على حساب منظور الأخوّة الإنسانية التي لا يمكن أن تكون مدار سياسات عمومية ملزمة. وفي لحظات الكارثة، تعود أخلاقيات الأخوّة إلى الواجهة من خلال الشعور بضعف الإنسان وتناهيه وإدراك أوهام القوة والسيطرة التي ولَّدتها عقيدةُ التقدم الإنساني. وهكذا فإن السلطة الرعوية للدولة والتضامن الأهلي والأخوّة الإنسانية.. هي الدروس الإيجابية الأساسية المستمدة من مأساة الكوارث الطبيعية.

أ.د السيد ولد أباه / مفكر موريتاني

spot_img