مقدمة
صدر عن المؤسسة المغاربية للطباعة والمثاقفة والتثقيف كتاب حوار الحضارات أعلامه وآفاقه، للباحث التونسي صبحي بن منصور أستاذ الحضارة بالمعهد العالي للعلوم الإسلامية بالقيروان. الكتاب في الأصل خلاصة دروس المؤلف في مادة الحضارة خلال ثلاث سنوات، جمعها المؤلف وصنفها وطورها وأثراها، لتكون مادة مرجعية للطلاب والبحاثين.
ينقسم الكتاب إلى بابين: نظري وتطبيقي. جاء الباب النظري في ثلاثة فصول تناولت مدخلا تعريفيا بحوار الحضارات والأبعاد المنهجية لمادة حوار الحضارات. ثم استعرض المؤلف أهم الأطروحات التي تناولت حوار وصراع الحضارات، من خلال ستة أعلام من الشرق والغرب، هم على التوالي: مالك بن نبي وروجيه غارودي والمهدي المنجرة وفرانسيس فوكوياما وصامويل هنتنغتون وعبد الله بن بيه.
أما الباب التطبيقي فيتكون من فصيلين، ركز المؤلف فيهما على البعد التعليمي والمنهجي، من خلال انتقاء مجموعة من النصوص الأساسية وتحويلها إلى دروس تطبيقية، وجعلها مادة للمدارسة والتحليل، لتقريب حوار وصراع الحضارات إلى الطلاب والباحثين، وتبيين المنهج السليم في القراءة والفهم.
ونكتفي هنا بعرض القسم الذي خصصه المؤلف للعلامة عبد الله بن بيه تحت عنوان: تكامل الحضارات وبناء مجتمع المؤمنين بالسلام: مقاربة المفكر الموريتاني عبد الله بن بيه. ويتكون هذا القسم من مقدمة ومحورين كبيرين وأربعة مباحث وخاتمة.
أولا: العنف داء الحضارة
شخص المؤلف في المحور الأول داء العنف العالمي كما فهمه من قراءته للعلامة عبد الله بن بيه، فبين أسباب العنف ونتائجه، ثم استعرض دواء الحكمة وشرح تركيبته ومفعوله المنتظر. انطق المؤلف من مسلمة مفادها أن الحضارات تمرض مثل الأفراد، وهي فكرة طرحها معالي الشيخ عبد الله بن بيه في عدة مناسبات وأعمال، كما صرح الشيخ -في يتقاطع مع نيتشه- أن أطباء الحضارة هم المفكرون والعلماء.
1- أسباب العنف
لقد ناقش الشيخ عبد الله أسباب العنف والإرهاب في مناسبات عديدة فين أنها متعدد ومركبة، منها: أسباب نفسية، أسباب دينية، أسباب سياسية، أسباب اقتصادية، أسباب ثقافية. ولكن المؤلف وقف عند ثلاثة أسباب فقط هي:
– التاريخ المزيف
يقصد المؤلف بذلك التاريخ المتخيل والهم الإمبراطوري للأمة، وهو ما ذكره الإمام عبد الله بن بيه في قوله: “إن واقع اليوم يقتضي البعد عن الخيال الرومانسي حول التاريخ … وعن التاريخ المعسكر المنتصر”. فالتعلق بهذا التاريخ الذهبي المتخيل، دفع البعض إلى ممارسة العنف سعيا لاستعادته، دون إدراك للمتغيرات التاريخية، والمستجدات الإنسانية.
– الاحتجاج بالدليل المجزأ
يقول المؤلف إن الكثير من أتباع الديانات -ومنهم الإسلام- وقعوا ضحايا الفهم الحرفي للنصوص، ثم اقتبس نصا للعلامة عبد الله بن بيه يشرح ذلك ويذكر نماذج منه. والقصد أن القراءة المجزة للنصوص الشرعية تخرجها عن سياقها اللغوي والتاريخي، وتنحرف بها عن المقاصد الكبرى للشرع. فبعض المنحرفين تشبثوا بمفاهيم إسلامية أصيلة لتبرير ممارستهم للعنف، مثل: الجهاد والولاء والبراء وأهل الذمة والجزية.
– توظيف التأويل المغلوط
ويقرر المؤلف أن من أسباب العنف أيضا التأويل المغلوط، وهو لا يختلف كثيرا عن السبب السابق، فعدم مراعا الضوابط المقررة في التعامل مع النصوص يؤدي إلى التأويل الفاسد والفهم المنحرف، الذي يفضي “إلى الاقتتال العبثي، حتى ولو ألبس لباس التقوي” كما يقول العلامة بن بيه.
– النتائج
نتج عن العنف المترتب على الأسباب السالفة، الكثير من الأذى للأمة وخاصة الأقليات، الأمر الذي يستوجب على العلماء يقول الإمام بن بيه النزول إلى الناس ” يبينوا لهم صحيح المفاهيم وقيوم المنهج، وأن يجيبوا على أسئلة الواقع البالغة المعقدة”.
2- دواء الحكمة
حاول المؤلف تحت هذا المبحث عرض دواء العنف كما تصوره عند العلامة عبد الله بن بيه، فعرض تركيبة دواء الحكمة وشرح مفعوله المنتظر. ومعلوم أن الإمام عبد الله بن بيه قد بين أن البيئة المناسبة للتخلص من العنف هي: ثقافة التسامح وقيم تقبل الآخر. والتسامح يحيل إلى عدة معان منها: “اليسر والسهولة والسعة، مما يدل على رفع الإصر والحرج والبعد عن التشدد”. وقد هيأ الإسلام الأرضية المناسبة لترسيخ قيم ثقافة التسامح، فقرر العدل وشرع الحوار، ونهى عن سوء الظن والغيبة، وأمر بالرفق والتراحم وحسن الخلق ورأب الصدع، ونهى عن الغلو والتشدد.
– مكونات دواء الحكمة
يرى المؤلف أن تركيبة دواء الحكمة عند العلامة بن بيه تشتمل على العديد من العناصر، وقف المؤلف عند اثنين منها هما: الحوار والعقلانية.
فالحوار: “قيمة… ومفتاح لحل كل مشاكل العالم”. وغاية الحوار هي التعارف والتفاهم والتعاون. ويري المؤلف أن الشيخ عبد الله جعل من واقع التنوع، منصة بنا عليها رؤيته للعلاج. في مناهضة لأطروحة نهاية التاريخ عند فوكوياما وصراع الحضارات عند هنتنغتون.
أما العقلانية: فهي المكون الثاني من مكونات دواء الحكمة، فالعقل هو أساس التكليف، وقد أعطا الشرع دائرة واسع للعقل ليدرك فيها مصالح العباد، وبالعقل يمكن “التعرف على الواقع والتوقع، لحل مشكلة الأجهال الثلاثة: الجهل بالنصوص والجهل بالمقاصد والجهل بالواقع”.
– مظاهر الشفاء من الاعتلال الحضاري
يقرر المؤلف -انطلاقا من فهمه لرؤية العلامة بن بيه- أن العلاج النهائي للاعتلال الحضاري لا يكون إلا ببذل السلام للعالم، والتصدي “لدعوى الربط بين بالدين والعنف”، وذلك بالتفريق بين الدين والتدين. وهنا يرد الشيخ على أطروحة فوكوياما القائلة إن الديانات المجنونة ستموت كما ماتت الأيديولوجيات المجنونة، لأن الدين عند الشيخ بن بيه “في أصله طاقة تصنع السلام”، ولكن بسبب ما كسبت أيدي الناس قد يتحول” إلى طاقة تصنع منها القنابل المميتة المهلكة للحرث والنسل”.
فالبشرية اليوم تحتاج إلى أن يقوم ” عقلاء العالم من القيادات الدينية بدورهم في صناعة جبهة فكرية موحدة، وصياغة تحالف إنساني يقوم على تفعيل دوائر المشتركات”. وإذا تحقق الشفاء من الاعتلال الحضاري، فإن أول مظاهره هي: تنمية المشتركات الإنسانية، وتصحيح المفاهيم المغلوطة، والقضاء على الإسلامفوبيا.
ثانيا: تكامل الحضارات
في هذا المحور سعى المؤلف إلى عرض فكرة التكامل بين الحضارات، كما ستقرأها من فكر العلامة بن بيه، وبين أن أطروحة الشيخ في تكامل الحضارات قامت على محاولة سد “الفراغ الروحي الذي ملأ الكون، حيث استغرقت البشرية في عالم المادة وتنافست فيه، إلى أن ضاعت الأخلاق وساد الانشقاق بين الأمم”. ولتحقيق التكامل المنشود لابد من بناء مجتمع المؤمنين بالسلام، وتوطيد ترابط الحضارات.
1- مجتمع المؤمنين بالسلام
ويتكون هذا المجتمع من المؤمنين بقيم “إحلال السلم محل الحرب، والحب مكان الكراهية، والوئام بدل الاختصام”. وذلك من خلال مجموعة من المبادئ والقيم والمبادرات التي نظر لها معالي الشيخ، ولعل من أبرزها: رعاية رموز السلام، وزراعة السلم في العالم، وإنشاء حلف فضول جديد، بالاستناد إلى مرجعية صحيفة المدينة.
– رعاية رموز السلام
حرص الشيخ على بناء جسور التواصل بين رموز السلام من كل الديانات في العالم وتوطيد الصلة بينهم، من خلال المؤتمرات والندوات وتنظيم قوافل التعارف والتواصل، من أجل “تأهيل العقول والنفوس لإدراك محورية السلم”، وإيصال رسالته إلى العالم، الذي يزداد اشتعالا كل يوم، ليتبوأ دعاة السلم مكانتهم كرجال إطفاء، لا يشغلهم من أشعل الحريق، بل يكف يتم إخماده؟ قبل أن يحرق الجميع.
– زراعة فكر السلام في العالم
ينطلق العلامة بن بيه من فكرة واقعية، مفادها أن زرع فكر السلام وقيمه ليس خيارا بل ضرورة، فلا بديل عن فكرة العيش معا بسلام، وهذا ما قعَّدَت له المواثيق الدولية والقانون الدولي. فالشيخ عبد الله يسعى لترسيخ قيم السلام والتسامح، من أجل التأسيس “لعقد الاجتماعي يحيل الاختلاف ائتلافا، والتنوع تعاونا، ويرشح الحوار حلا للخلاف، والصلح علاجا للتنازع”.
– حلف فضول جديد
حلف الفضول في الأصل هو ذلك الحف الذي أبرم قبل الإسلام، من أجل تحقيق مجموعة من القيم العادلة، وقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم (لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت). أما حلف الفضول الجديد فهو يدعو أيضا “إلى إعلاء القيم كما يفهمها أصحاب ديانات العائلة الإبراهيمية في خدمة السلام، والتضامن، والتفاهم المشترك بين الناس أياً كان دينهم أو عرقهم أو جنسيتهم”.
– مرجعية صحيفة المدينة
في سبيل تحقيق تكامل الحضارات انطلاقا من دعوة السلم، عاد العلامة بن بيه إلى صحفية المدينة، وانطلق منها كمرجعية، أساسية في العلاقة بين المسلمين وغيرهم. وبذلك يمكن أن تصبح صحفة المدينة إحدى مرجعيات نظام حقوق الإنسان العالمي، “فهي تؤسس لمجتمع متعدد الأعراق والديانات، متضامن يتمتع أفراده بنفس الحقوق، ويتحملون نفس الواجبات وهي واجبات محددة بدستور عادل”.
2- ترابط الحضارات
يؤكد المؤلف إن التكامل بين الحضارات من أكثر المسائل التي فكر فيها العلامة بن بيه ونظر لها، “وسعى إلى تطبيقه على أرض الواقع الدولي”. وذلك من خلال تعميق الوعي بوحدة المصير الإنساني، وتكريس خطاب التعايش السلمي.
– الوعي بوحدة المصير الإنساني
ولتعميق الوعي بمصير البشرية المشترك انطلق الشيخ من حديث ركاب السفينة، و”في هذا الحديث استعارة رمزية بليغة لحالة الإنسانية، في اتحاد مصائرها وتواشج مساراتها، وتشبيه لها بركَّاب السفينة الواحدة، والتي – وإن كانت ذات درجات متفاوتةٍ – إلا أنها في النهاية محكومة بمسار واحد ومحكوم عليها بمصير واحد”.
– تكريس خطاب التعايش السلمي
إن ترسيخ قيم التعايش شرط أساسي في تكامل الحضرات وترابطها، ولذلك أكد الشيخ على نشر خطاب التسامح، من خلال المؤتمرات والإعلانات وقوافل السلام، كما حث الإمام الشيخ بن بيه على وضع “الأسس المعرفية والشرعية لإمكانية خطاب التعايش المؤصل في أفق المواطنة بين مختلف الديانات”.
خاتمة
وختم صبحي بن منصور القسم الذي خصصه للعلامة بن بيه من كتابه حوار الحضارات أعلامه وآفاقه، بمجموعة من الخلاصات أبرزها:
– أن التعاون والتكامل بين الحضارات هو تكامل روحي أولا، هيكلي ثانيا، وظفي ثالثا.
– أن المؤمنين بالسلام هم كذلك المؤمنون بترابط الحضارات، وبوحدة مصير الإنسانية.
– أن طب الحضارة مسؤولية حكماء العصر، من ذوي العقول الراجحة والضائر الإنسانية.
د.سيدينا سيداتي / أكاديمي موريتاني