يقول نيلسون مانديلا: “بعد تسلُّق تلة كبيرة، يجد المرء أن هناك العديد من التلال الأخرى يجب صعودها”؛ فبعد خوض كينيا تجربة ديمقراطية ناجحة في أغسطس من العام الماضي 2022م، تضطرب الآن شوارع نيروبي بالاحتجاجات منذ شهر مارس الماضي، وتعيش أوضاعًا سياسية واقتصادية مضطربة.
حيث يتهم الكينيون الرئيس روتو برفع الضرائب في الوقت الذي تنهار فيه البلاد تحت وطأة التضخم المتصاعد، كما تتهمه بالتراجع عن الوعود التي قطعها خلال حملته الانتخابية عندما أعلن نفسه مرشح الكينيين الفقراء، وتعهَّد بتحسين أحوالهم الاقتصادية.
لكنَّ الأمر لا يخلو من ألاعيب السياسة، ومحاولات المعارضة إيجاد موطئ قدم لها على الساحة السياسية في البلاد، وإلا فلماذا تشتد الاحتجاجات في كينيا؟ وما أهداف المعارضة من إشعال المظاهرات في الشارع الكيني؟ وما هو المَخرج أمام الحكومة لتهدئة الوضع السياسي؟
على صفيح ساخن:
منذ مارس الماضي نظَّم تحالف أزيميو بزعامة رايلا أودينجا تسعة أيام من الاحتجاجات في الشوارع ضد الحكومة، مع تحوُّل المسيرات في بعض الأحيان إلى أعمال نهب واشتباكات عنيفة بين قوات الأمن والمتظاهرين نتج عنها سقوط قتلى وجرحى وتخريب في الممتلكات؛ وذلك بسبب الزيادات الضريبية التي أقرتها حكومة الرئيس ويليام روتو خلال الشهر الماضي.
في حين تقول حكومة روتو: إن الضرائب المرتفعة ضرورية للمساعدة في التعامل مع مدفوعات الديون المتزايدة، وتمويل مبادرات خلق الوظائف. وعلى الرغم من أن المحكمة أوقفت تنفيذ الأمر؛ إلا أنه تم رفع أسعار الوقود من 8 إلى 16٪ ضمن ضريبة القيمة المضافة وفقًا للقانون الجديد.
ثم قامت المعارضة بإلغاء المظاهرات في أبريل ومايو بعد أن وافق الرئيس روتو على الحوار، لكنَّ المحادثات انهارت، مما دفَع تحالف أزيميو إلى تنظيم عدة جولات من الاحتجاجات خلال هذا الشهر.
وقال تحالف أزيميو: إن ما لا يقل عن 50 شخصًا قد قُتِلُوا في الاشتباكات منذ مارس الماضي، بينما تشير الأرقام الرسمية إلى أن عدد القتلى بلغ 20 شخصًا.
وندَّدت جماعات حقوقية، بما في ذلك منظمة العفو الدولية، بالقمع الذي مارسته الشرطة، وقالت: إن لديها أدلة على إعدام 27 شخصًا خارج نطاق القضاء، بالإضافة إلى أعمال عنف ارتكبتها الشرطة بحق المحتجين في الشهر الماضي (يوليو) وحده.
كما تم اعتقال عدد من حلفاء أودينجا، الذي زعم في وقت سابق من هذا الشهر أن الحكومة دبَّرت مؤامرة لاغتياله خلال المظاهرات، وقال: إن سيارته أُصيبت عدة مرات أثناء قيادته لها في أنحاء العاصمة.
يقول الأكاديمي والباحث الكيني، د. مايكل ندوني: إن تكلفة المعيشة في كينيا حقًّا لا تُحتَمَل، لكنَّ الأساليب العنيفة وطريقة الاحتجاج تُحوِّل الوضع السيئ إلى أسوأ. وأضاف أن هذا لا يعني أن الكينيين لا يعانون، إنهم يعانون؛ لكن الحل لا يمكن أن يأتي من المظاهرات التي تقودها المعارضة الحالية.
وكان الرئيس الكيني وليام روتو قد صرَّح بأنه مستعدّ للقاء زعيم المعارضة رايلا أودينجا في أي وقت بعد أشهر من الاحتجاجات المناهضة للحكومة التي أثارت قلقًا دوليًّا، مع دعوات للحوار، حيث قال روتو في رسالة مخاطبة أودينجا على تويتر: “كما تعلم دائمًا، أنا متاح للقاء معك في أي وقت يناسبك”.
لكن زعيم المعارضة الكينية رايلا أودينجا رفض الدعوة قائلاً: “إن عرض الرئيس لم يكن جادًّا على الإطلاق”.
المعارضة والنوايا الخفية!
تبرز تساؤلات عما إذا كانت المعارضة تستغل الأوضاع الاقتصادية المتردية لتحقيق مكاسب سياسية، والاستمرار بشحن الشارع الكيني ضد الحكومة الحالية، وهذا ما ظهر في خطاب الرئيس روتو، في ناكورو قائلًا: “أريد أن أخبر رايلا أودينجا أن الانتخابات انتهت في 8 أغسطس من العام الماضي، لا يمكنك السعي إلى قيادة بلدنا من خلال إراقة الدماء والقتل وتدمير الممتلكات، لا توجد طريقة لتغيير كينيا من خلال الطريق الذي سلكته”.
وكان السياسي المخضرم أودينجا قد خسر في انتخابات أغسطس العام الماضي 2022م أمام الرئيس ويليام روتو، وهي خسارته الخامسة في الانتخابات الرئاسية، بينما وعد روتو بتخفيض تكلفة المعيشة، وقدَّم نفسه على أنه حريص على انتزاع السلطة من السلالات الحاكمة المتمثلة في الرئيس السابق أوهورو كينياتا والمرشح رايلا أودينجا.
في هذا الصدد يرى د. مايكل ندوني في حديثه مع “قراءات إفريقية” أن رايلا أودينجا كان صديقًا للنظام السابق، بعد صفقة سياسية جاءت بعد أن قاد الاحتجاجات ضد الحكومة في أوائل عام 2018م، وعندما بدأت تكلفة المعيشة في الارتفاع كان أودينجا في المجال العام يدافع عن الحكومة قائلاً: “يجب على الكينيين التوقف عن التذمر من ارتفاع تكاليف المعيشة”.
وبحسب ندوني فإن الرئيس روتو إذا وافق على صفقة مع رايلا، فلن يكون هناك احتجاجات أبدًا، وهذا يعني أن مصالح رايلا ليست مع تكلفة معيشة الناس.
وعن عدم وفاء روتو بوعوده للكينيين؛ يعتقد الأكاديمي الكيني أن الرئيس روتو وعد وعودًا براقة خلال الحملات الانتخابية، وهذه هي طبيعة السياسة؛ لأن الناخبين في كل الديمقراطيات يحبون المبالغة في الوعود، لكنَّ الحقيقة أنه لا توجد طريقة تُمكّنه من الوفاء بما وعَد به حرفيًّا، ولا يمكن لأي شخص آخر الوفاء بذلك في غضون عدة أشهر.
من الجدير بالذكر أن الرئيس روتو ورث ديونًا حكومية هائلة، ففي الوقت الذي تولى فيه الرئيس السابق كينياتا منصبه في عام 2013م، كان حجم الدين الخارجي يبلغ 1,79 تريليون شلن (13 مليار دولار)، وبحلول الوقت الذي غادر فيه كينياتا منصبه، كان قد تضخم إلى 8,7 تريليون شلن (61 مليار دولار).
ثم ألغى روتو دعم الوقود، مما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية؛ مثل الخبز ودقيق الذرة، والتي تتأثر بشكل مباشر بتكلفة الطاقة والنقل، بالإضافة إلى ضريبة الإسكان، وضريبة المنتجات البترولية، وضريبة تعويض التأمين، تم أيضًا إدخال ضرائب الأصول الرقمية.
كينيا تدفع الثمن:
رغم قيام المظاهرات في كينيا بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية؛ إلا أن الاحتجاجات زادت الوضع سوءًا، حيث دمَّر بعض المتظاهرين البنية التحتية أثناء الاحتجاجات، بما في ذلك محطات السكك الحديدية وطريق نيروبي السريع.
وقدّر سكرتير مجلس الوزراء الأضرار التي لحقت بالطريق السريع وحده، بأنها ستكلف 707 ملايين شلن (5 ملايين دولار) لإصلاحها.
وقد أثرت هذه الأزمة مباشرةً على معيشة الكينيين؛ حيث ارتفعت تكلفة الكهرباء في المنازل، كما أظهر مؤشر أسعار المستهلك التابع لمكتب الإحصاء الوطني ارتفاع التضخم، في الوقت الذي شهدت فيه المحلات التجارية تقلُّصًا في الطلب على السلع والخدمات.
كما أسفرت الأزمة الاقتصادية عن ارتفاع في أسعار البنزين؛ بسبب نقص الدولار، وقد نفى وزير التجارة الكيني مسؤولية الحكومة عن هذه الأزمة، واعتبرها أزمة عالمية تعود للظروف التي يشهدها العالم.
هذا وتؤدي الاحتجاجات الأسبوعية إلى تأزيم الوضع الاقتصادي؛ مما يتسبب في إغلاق المشاريع، واهتزاز ثقة المستثمرين الأجانب في الاقتصاد الكيني، وهو ما يعني تقلُّصًا في تدفقات النقد الأجنبي.
يرى الباحث المتخصص في شؤون شرق إفريقيا، شمسان التميمي، أنه لا توجد أسباب خفية وراء الاضطرابات في كينيا، وأن الاحتجاجات بسبب الارتفاع الحادّ في أسعار السلع وغلاء المعيشة، والمعارضة استغلت هذه الاحتجاجات؛ لتزيد من حدة المظاهرات، بالإضافة إلى ترويجها لفكرة تزوير الانتخابات الأخيرة، وأنها لم تكن شفافة؛ على حد زعم المعارضة.
وعن أبرز التداعيات الاقتصادية للاضطرابات الأخيرة في كينيا أضاف “التميمي” أن لها آثارًا سلبية على ممارسة الأعمال التجارية على المستوى المحلي، كما أنها ستبطئ انتعاش اقتصادات منطقة شرق إفريقيا.
وعلى الصعيد السياسي قال “التميمي”: إن الاحتجاجات لها تداعيات غير إيجابية على الرئيس روتو وحكومته التي تسلَّمت مقاليد الحكم قبل فترة وجيزة، فبحسب الرأي العام الكيني فإن نسبة كبيرة من الشعب الكيني أعرب عن نَدَمه لانتخاب روتو في الانتخابات الأخيرة.
ويعتقد “التميمي” أن إجراءات رفع الأسعار التي أقرَّتها حكومة روتو تهدف إلى إنعاش اقتصاد البلاد الذي استلمه وهو مُهدَّد بالتدهور، ولكن قد يكون الوقت الذي اختاره لتنفيذ تلك الإجراءات في ظل تدهور الوضع المعيشي، غير مُوفَّق تمامًا.
ومن جانبٍ آخر؛ فإن إراقة الدماء وانتشار العنف في المظاهرات التي تقودها المعارضة؛ تُكَبِّد كينيا خسائر من نوع آخر؛ فقد صرَّحت الأمم المتحدة بأنها قلقة للغاية من انتشار العنف والاستخدام غير المتناسب للقوة في كينيا، بما في ذلك استخدام الأسلحة النارية مِن قِبَل الشرطة خلال الاحتجاجات، ودعت إلى إجراء تحقيقات سريعة وشاملة ومستقلَّة في الوفيات والإصابات.
ورغم أن احتجاجات المعارضة استندت على الحق الدستوري في التظاهر، إلا أنه لا يُستبعَد أن وراء الفوضى التي رافقت الأحداث أطرافًا ليس من مصلحتها أن يتقارب روتو مع رايلا؛ لأنها تتغذى من هذا الاستقطاب الثنائي.
بينما يرى مراقبون أن رغبة رايلا أودينغا في تولّي السلطة ستكون له عواقب وخيمة على كينيا، ودعوة أنصاره للخروج للتظاهر قد يُدْخِل البلاد في مأزق ضخم لا تستطيع الخروج منه بسهولة، مثل المظاهرات السابقة التي دعا لها رايلا بعد أن خسر انتخابات 2017م، والتي أدت إلى مقتل كينيين.
من جهة أخرى، يرى الباحث شمسان التميمي أن الأوضاع وصلت إلى حد خطير، ويجب أولًا على السلطات عدم استخدام العنف الزائد مع المتظاهرين؛ لتجنُّب انزلاق الاوضاع إلى ما لا يُحْمَد عقباه.
وأضاف “التميمي” أنه يجب إعادة الدعم المادي للسلع التي تسبَّبت في ارتفاع الأسعار، حتى وإن كان ذلك عبر طلب المعونة من شركاء التنمية الإقليميين والدوليين، كما يجب إجراء الحوار مع قوى المعارضة لخفض حدة التوتر والاحتجاجات.
وختامًا.. إن كانت كينيا قد تجاوزت الانتخابات الرئاسية بشكل ديمقراطي؛ فإن الانتقال بالبلاد لتجاوز الأزمة الاقتصادية الراهنة وتصفية الخلافات السياسية هو التحدي المصيري أمام ويليام روتو.. فهل يلجأ الرئيس المنتخب لاحتواء الأزمة السياسية والاقتصادية؟ أم تشتدّ العداوة بين الحكومة والمعارضة الكينية؟
روضة علي عبد الغفار / صحفية متخصصة في الشأن الإفريقي
المصدر: مجلة قراءات إفريقية