نشرت صحيفة “الغارديان” مقالاً للكاتبة والصحافية نبيلة رمضاني قالت فيه إن أزمة النيجر أظهرت أن شبه الإمبراطورية الفرنسية في أفريقيا تنهار شيئاً فشيئاً.
وقالت إنه بعد الانقلاب الذي نفذه عسكريون في النيجر، رفضت المستعمرة السابقة التأثير الفرنسي، في وقت بدأت قوى مثل روسيا والصين تحيط بالمنطقة.
وقالت الكاتبة إن التراجع للإمبراطوريات المتداعية عادة ما يتميز بالإجلاء السريع، حيث يسارع المواطنون الفزعون نحو المطار على أمل العثور على رحلة عاجلة هرباً من الفوضى. وكان هذا هو مشهد ما بعد الاستعمار في عاصمة النيجر، نيامي، هذا الأسبوع، حيث انضم عددٌ من المواطنين الفرنسيين إلى مواطني الاتحاد الأوروبي للعثور على طريق بعيداً عن الدولة في غرب أفريقيا.
وقام الجيش بانقلاب ضد الرئيس المنتحب ديمقراطياً، محمد بازوم، وقبل أيام من 3 آب/ أغسطس، اليوم الوطني للاستقلال عن فرنسا، في عام 1960. وهتفت الحشود: “تسقط فرنسا”. وأشعلوا النيران بالأبواب المحيطة بالسفارة الفرنسية وحطّموا نوافذها.
وفي الوقت الذي ما زال فيه بازوم تحت الإقامة الجبرية، فإن الحلفاء في فرنسا خافوا من ألا يستطيعوا ضمان أمن الغربيين.
وفي بيان شديد اللهجة من قصر الإليزيه، تعهّدَ إيمانويل ماكرون بأنه “لن يتسامح مع أي هجوم ضد فرنسا ومصالحها”، ولو تعرّضَ أحدٌ للأذى فإن الانتقام قادم “مباشرة ومن دون تنازل”، قال ماكرون، ويبدو مشابهاً تماماً لـ “سيد استعماري”، يصدر تهديدات ضد المواطنين الأصليين الخارجين عن السيطرة، يثيرون المشاكل، في منطقة تبعد 2.000 ميل عن فرنسا.
ورغم وَهْمِ الانسحاب الفرنسي الشامل، لا يزال لفرنسا حامية عسكرية مكوّنة من 1.500 جندي في النيجر، إلى جانب المقاتلات العسكرية والمسيرات الهجومية. كل هذا تذكير قوي بأنه بعد فترة دموية من التخلص من آثار الاستعمار، لا تزال فرنسا تحتفظ بشبه إمبراطورية في أفريقيا، وبالحديد والنار، ولكنها تتعرض لتهديد بطريقة غير مسبوقة. ويمكن ربط أزمة النيجر الحالية بالعلاقات الاستعمارية السابقة، والتي تم إحياؤها باسم “فرانكفريق”، وهي حلقة ضاربة من العلاقات والتحالفات الاقتصادية والثقافية والسياسية والأمنية، وتدور حول اللغة والقيم الفرنسية.
ولخص الرئيس شارل ديغول، الزعيم الفرنسي القوي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أهميتها بالقول: “القوة الفرنسية والسلطة الفرنسية في أفريقيا ظلت مترابطة بشكل لا ينفصم، ويؤكد كل منهما الآخر”. ورغم اعترافه بحق تقرير المصير، إلا أن ديغول وقادة فرنسا الذين جاءوا بعده ظلّوا راغبين بالحفاظ على قواعدهم الإستراتجية، وكذا مصادر الطاقة، والعقود التجارية التي تمنح فرنسا أفضلية وسيطرة مالية. وتعامل هؤلاء القادة مع أفريقيا الفرنسية بأنها “بري كاري” (حديقة خلفية)، وهو مجاز يعود إلى الملكيات السابقة للثورات، استخدموه لوصف المناطق المستعمرة التي من الواجب الدفاع عنها. مثلاً، النيجر، تعتبر سابع دولة تنتج اليورانيوم، وتعتبر فرنسا التي تعتمد على الطاقة النووية بنسبة 70% لتوليد الطاقة الكهربائية، من أهم مستوردي اليورانيوم النيجري.
وانتشر المستشارون الفرنسيون في إدارات النيجر المتعاقبة، وليس فقط في وقت الرئيس الذي خلع قبل فترة. ولا تزال اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية لخمسة وعشرين مليون نسمة في النيجر، وتعتبر المنظمات الثقافية داخل مجموعة الفرانكفونية الذين تربطهم لغة موليير، كثيرة.
وبعيداً عن هذا، فقد لعبَ الفساد دوراً في استمرار النظام الاستعماري، فـ “فرانكفريق” تضم دولاً لديها سجل صارخ في حقوق الإنسان، بمن فيها النيجر. فقد تجاهلَ الحكام الخانعون الدمى التقدم الديمقراطي مقابل برامج الدعم الكبرى. ويتم دفع الرشاوى من خلال صفقات التسلح ومساعدات أخرى من خلال الأمن، وبالطبع من خلال المال الذي يتم غسله. وتدفُّقُ المال، كان دائماً على مسارين، حيث حمل الساسة الأفارقة معهم حقائق محشوة بالأموال، وأعطوها للساسة الفرنسيين. فقد أدين الرئيس السابق نيكولاي ساركوزي بتهمة تلقي أموال من الزعيم الليبي السابق معمر القذافي، مع أنه ينكر التهم.
ولعل أهم إرث للاستعمار الفرنسي كان سي أف إي (المجتمع المالي الفرنسي) فرانك، وهي العملة المرتبطة بالفرانك الفرنسي- اليورو الآن، وهو ما يعطي فرنسا هيمنةً مالية على الدول الأفريقية، بمن فيها النيجر.
وطالما دعمت الولايات المتحدة هذه السياسات الاستغلالية، لأنها تعاملت مع فرنسا كساحة ضد التأثير السوفييتي.
وتوسع تعريف دور فرنسا من كونها “شرطي أفريقيا” لمكافحة المتمردين الإرهابيين من جماعات “القاعدة” بمنطقة الساحل والصحراء. ولكن مشكلة فرنسا هي أن النيجريين، مثل بقية الدول الأخرى في المنطقة، يرفضون الإمبراطورية الفرنسية. وبهذا المعنى، فإن التأثير الفرنسي التقليدي يتفكك. ورغم حصولها على مساعدات مالية بملياري دولار سنوياً إلا أن النيجر لا تزال أفقر دولة في العالم، ولا تزيد نسبة المتعلمين فيها عن نسبة 37%، وكان الاتحاد الأوروبي سيخصص 503 مليون يورو، على مدى ثلاثة أعوام حتى عام 2024، إلا أن التأثير المستمر لفرنسا وحلفائها كان سبب المشاكل المزمنة، بما فيها البطالة العارمة بين الشباب.
والنيجر هي آخر دولة تشهد انقلاباً، بعد مالي، 2020 و2021، وبوركينا فاسو، التي شهدت انقلابين في 2022. والبلدان حصلا على الاستقلال عام 1960.
وتتزايد المشاعر المضادة لفرنسا والغرب بشكل عام، حيث تحاول القوى الأخرى، مثل روسيا وتركيا والصين استغلال الأمر.
وحذّرَ النظامان العسكريان في النيجر وبوركينا فاسو، من محاولات استخدام القوة ضد النظام العسكري في النيجر. وتعمل مرتزقة فاغنر الروسية في كلا البلدين، وعرض المرتزقة المساعدة على العسكريين في النيجر. ورفعت الأعلام الروسية وطالب المتظاهرون بجعل بوتين قوة لهم بدلاً من ماكرون.
وهناك منظور جديد لـ “التَّدافُع على أفريقيا”، وهو المصطلح الذي استُخدم لوصف محاولات القوى الأوروبية ضم مناطق من القارة إلى مدار هيمنتها، حتى بداية الحرب العالمية الأولى.
ولو زاد الحقد ضد فرنسا، فسيقود إلى إجلاء شامل، بمن فيهم الجنود، ما يعني أن مجموعة “فرانكفيق” قد أكملت مهمة التخلص من آثار الاستعمار.
ولكن النتيجة الجيدة لكل هذا هو أن تقوم النيجر، وبقية الدول الأفريقية، باختيار طريق مماثل، واختيار حكومات تَحْكُم دون تدخُّل، وتقرر المستقبل الديمقراطي، ومن المحتمل أن تقوم دول أخرى بسجلٍ قمعي سيء وانتهاكات حقوق الإنسان بملء الفراغ في السلطة.
ترجمة صحيفة القدس العربي