spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

الفكر العربي والمسألة الأخلاقية

يتساءل اليوم العديد من كبار الفلاسفة: ما هو خط الدفاع الأخير عن القيم الإنسانية في مواجهة الآثار المدمرة للثورة التقنية الراهنة التي يبدو أنها في الطريق إلى تدمير الحاجز الجوهري بين الإنسان والطبيعة؟

كان فلاسفة مدرسة فرانكفورت قد طرحوا هذا الإشكال، وبصفة خاصة أدورنو وهوركايمر في كتابهما المشهور “جدلية العقل” الصادر سنة 1944. كان هذا الكتاب أول محاكمة صريحة وقاسية لتركة فكر الأنوار الذي تحول من هدف تحرير الإنسان عن طريق العقل إلى الاستخدام الأداتي للعقل المفضي إلى تكريس أعتى أصناف القهر والتسلط على الوجود الإنساني.

ما طرحه الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت هو السؤال الجوهري المتعلق بقدرة الصياغة القانونية للأخلاق العمومية على تعويض الفضائل السلوكية بالمفهوم الطبيعي الذي هو أفق الفلسفة القديمة منذ أفلاطون وأرسطو.
ومن المعروف أن الفيلسوف الألماني كانط هو الذي اعتمد هذه الصياغة القانونية في نظريته حول العقل العملي من حيث قيامه على قوانين الحرية أو فكرة الواجب الكوني. ما قادت إليه الثورة الكانطية هو تعويض الفضيلة بالواجب أو الأخلاق بالقانون، واعتبار الفعل الأخلاقي نزوعًا خارج الطبيعة يتحدد بقاعدة التشريع الكوني للسلوك الفردي.
ما تغير مع هذا التصور هو الفصل الجذري بين العقل المجرد الذي ينحصر في مجال المعرفة المحكوم بقوانين الطبيعة، والعقل العملي الذي هو مجال الغايات الخارجة عن الطبيعة والمؤسسة على الحرية.

وهكذا طرح على الفكر الفلسفي المعاصر سؤال القدرة على الكشف عن قوانين تحكم الفعل الأخلاقي الحر الذي هو بالضرورة خارج الطبيعة من حيث هي مجال القوانين الثابتة الموضوعية؟
هل يمكن أن تكون الظاهرة الأخلاقية حالة موضوعية على غرار الظاهرة الطبيعية؟

ذلك هو السؤال الذي شغل فلاسفة الأخلاق المعاصرين الذين انقسموا إجمالًا إلى ثلاثة اتجاهات: اتجاه القانون الطبيعي الذي ظل مهيمنًا لدى المفكرين من ذوي الخلفيات الدينية المحافظة (النزعة التومائية الجديدة التي لا تزال مسيطرة على الكنيسة الكاثوليكية)، والاتجاه الأداتي بخلفيته الكانطية المركز على المعايير الصورية الكونية، والاتجاه النتائجي الذي يصرف النظر إلى الآثار النفعية للسلوك على مصالح الفرد ومنافعه.

وغني عن البيان أن هذه المواقف الفلسفية من المسألة الأخلاقية تنعكس في الفكر السياسي الأيديولوجي كخلفيات واضحة للنزعات الثلاث الكبرى السائدة حاليًّا: التيار المحافظ الأصولي، والتيار الليبرالي الاجتماعي، والتيار النيوليبرالي.

الاتجاه الأول يرى أن السياسة لا بد من أن تقوم على الحقوق الطبيعية للأفراد ضمن منظومة أخلاقية تستند إلى ثوابت وكليات مطلقة، في حين يرى الاتجاه الثاني أن الإنسان يمارس حريته الفردية ضمن منظومة من الحقوق التي تنال عن طريق العقل الجماعي المحكوم بالتزامات مشتركة مسؤولة، أما الاتجاه الثالث فيذهب إلى أن المقياس في القيم الفردية والمدنية هو المنافع والمصالح المتغيرة التي تكفل تطور الإنسان ورفاهيته.
وإذا كان المشكل الذي يقود إليه التصور الطبيعي هو نفي الحرية الإنسانية من منظور القيم الجوهرية المطلقة، فإن التصور الإجرائي يفتقد إلى ما أسماه بول ريكور “الغائية الأخلاقية” أي فكرة الخير التي لا يمكن أن يعوضها القانون الصوري الكوني، أما المقاربة النفعية فتقود إلى منزلقات قيمية لا مخرج منها (رمز لها الفلاسفة بمشكل القاطرة وخلاصته التعارض الأخلاقي الحتمي بين مصالح الأفراد ضمن منظور نفعي خالص).

  • وعلى عكس ما يتصور، ليست هذه إشكاليات نظرية محضة، بل تحيل إلى أوضاع مقلقة راهنة من بينها:
    الإشكالات الأخلاقية التطبيقية التي انجرت عن الثورة التقنية الراهنة التي أصبح الإنسان نفسه هو محورها، بما أفضت إليه من تحديات نوعية لا يمكن حسمها بالأدوات القانونية الصرفة مثل مسائل الذكاء الاصطناعي، والتصرف الجيني والرقابة الرقمية، وغيرها.
    خروج الدين من المجال العمومي في الديمقراطيات الليبرالية الغربية، بما له من تأثير حاسم في التراث الأخلاقي للمجتمعات المعنية، باعتبار أن هذا التراث هو الرصيد التاريخي الحي لتلك المجتمعات وهو الخلفية العميقة لاختياراتها القيمية العينية في ما وراء الممارسة الدينية نفسها. تلك هي الجوانب التي نبه إليها هابرماس، وتشارلز تايلور وجان مارك فري في كتبهم الأخيرة.
  • انفجار مشكل الهويات الثقافية والعرقية في مجتمعات عالمية أصبحت في مجملها متعددة ثقافيًّا وقيميًّا، بما يفرض إعادة النظر في الموجهات العقدية والأخلاقية للمجموعات السياسية والمدنية.

بالرجوع إلى وضعنا العربي الإسلامي، نلمس اتجاهين متمايزين؛ يذهب أحدهما إلى طرح الخيار الأخلاقي بديلًا عن المقاربة القانونية الغربية، ويذهب ثانيهما إلى اعتماد الرؤية الليبرالية الصورية بديلًا عن الأخلاقية الجوهرية السائدة في مجتمعاتنا.

ما يجب التنبيه إليه هو أن الموقف الأول عادة ما يتبنى فكرة “القانون الطبيعي” التي هي أطروحة أرسطية ولاهوتية كاثوليكية وليست في أصلها ذات خلفية إسلامية. فمن الجلي أن أغلب المتكلمين والفقهاء رفضوا فكرة التحسين العقلي الذاتي التي هي أساس مدونة القانون الطبيعي، بما فيهم المعتزلة الذين وإن قالوا بالتحسين العقلي، إلا انهم اعتبروا أنه يقتضي المعيارية الشرعية في إلزاميته الفعلية.

ما يعكسه هذا النقاش النظري المجرد هو أن الديانة التوحيدية استبدلت معيارية الطبيعة بمعيارية التشريع الكوني الذي هو في حقيقته معارض للطبيعة، ومتجاوز لها ومؤسس على مقاصد عليا كلية. ذلك ما تنبه إليه كانط في تمييزه بين العقل المجرد والعقل العملي، بين قوانين الطبيعة وقوانين الواجب، وبنى عليه لفيناس فكرته في التضارب بين منطق الوجود ومنطق الأخلاق.

ما نريد أن نخلص إليه هو أن عملية التحديث الاجتماعي التي نصبو إليها لن تتحقق ضمن منظور نفعي إجرائي مقطوع الصلة بالقيم والفضائل المدنية التي فرض على الفكر الغربي اليوم الرجوع لها للوقوف ضد تجاوزات العقل الطبيعي التقني، لكن هذه المرجعيات الأخلاقية لا تفهم إلا من حيث هي غايات ومقاصد كونية عليا تؤسس لديناميكية تاريخية مفتوحة على المستقبل.

أ.د السيد ولد أباه مفكر موريتاني

spot_img