في هذه المقالة الرابعة سأتحدث عن اتفاقيات الفرنسيين مع مجموعة إدوالحاج بمنطقة الگبله، وسوف أتحدث لاحقا عن الاتفاقيات المبرمة بين الفرنسيين وبين إدابلحسن وأولاد بالسباع وأولاد خليفة وإدگباچه، ولا شك أن هنالك الكثيرَ من الاتفاقيات الخاصة بهذه المجموعات مما لم ينشر ولم أطلع عليه، وأعتقد أيضا أن هناك غيرها من المجموعات ممن وقع الأوروبيون معه اتفاقيات ولم نعثر عليها بعد. وكما قلت في مقالتي السابقة، المتعلقة بوثائق إمارة الترارزة، فإني أرجو أن يتم الكشف عن كل تلك النصوص الباقية مع المجموعات المذكورة ومع غيرها، وأن ترى كلها النور، حتى نتمكن من وضع اليد على معلومات ستفيد دون شك المهتم بتاريخ وثقافة هذه البلاد. وأعيد ندائي ورجائي، بمناسبة نشر هذه النصوص، للسلطات الرسمية الموريتانية، بضرورة التواصل مع السلطات الفرنسية المعنية للحصول على نسخ من هذه النصوص وعلى غيرها مما لم يتم الإفراج عنه بعد.
مجموعة إدوالحاج.. الدبلوماسية الناجحة في موريتانيا وفي السنغال
تعاملت مجموعة إدوالحاج بمنطقة الگبله مع الأوروبيين مبكرا عبر نهر السنغال وعبر المحيط الأطلسي، ويذكر المختار بن حامدٌ المتوفى رحمه الله سنة 1993م أن مرسى إدوالحاج على نهر السنغال يقع على بعد 6 كلم غرب مدينة روصو، في مقابلة قرية اندكتين السنغالية الواقعة على الضفة اليسرى. ويذهب فريديريك كارير (Frédéric Carrère) المتوفى سنة 1888م وبول هول (Paul Holle) المتوفى سنة 1862 في كتابهما المشترك “عن السنيغامبيا الفرنسية” (De la Sénégambie française) المنشور سنة 1855 إلى أن مرسى إدوالحاج كان هدية من زعيم منطقة شمامه “انچاك أرام” لمجموعة إدوالحاج في القرن السابع عشر الميلادي. وأن ذلك الزعيم كان صالحا دينا، وتقربا منه إلى الله تعالى وحبا في أحفاد الصحابة، فقد جعل “انچاك أرام” ذلك الإقطاع هدية لإدوالحاج أحفاد الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري (هكذا في الأصل الفرنسي والمشهور نسبة إدوالحاج لأنس بن مالك الأنصاري).
وتذهب الرواية المحلية إلى أن الزعيم “انچاك أرام” هو انچاك بن چَگْبَچِينْ بن بُورْ گَرَكْ (بُورَگْرگْ كما تقول الرواية المحلية). و”بور” بلهجة الولوف الإفريقية تقال للرأس، وصارت تطلق على الحاكم حيث هو، فيقولون “بور اندر” للحاكم الفرنسي في سان لويس، و”بور الترارزة” للأمير، و”بور دارمانكو” لشيخ إدوالحاج أو الشمس. وگَرَكْ موضع شرق مدينة روصو. وكان مقر بُورْ گَرَكْ وذريته من زعماء شمامه انجوربل، وهو الجزء الشرقي من مدينة روصو الحالية. وانچاك هذا جد أسرة مشهورة من أولاد بنيوگ.
ويذهب “كارير” وزميله “هول” إلى أن انچاك أرام، وفي سياق صراعه مع الترارزة في عهد الأمير أعمر بن اعلي شنظوره، سيترك مقره انجوربل منتقلا إلى الدَّنْگَه (Dgianghé) على الضفة اليسرى لنهر السنغال؛ حيث بنى أخصاصه وأحاط به أنصاره واستقر هناك. وقد صارت الدَّنْگَه أو الدَّنْكَه تطلق عند متكلمي الحسانية على الحي ذي الأخصاص المستقر لا يبرح الأرض بحثا عن نجعة أو غيرها. وفي هذه الفترة دشن الترارزة مرساهم المعروف بمرسى الترارزة أو مرسى الصحراء ويقع إلى قريبا من مرسى إدوالحاج وكلاهما إلى الغرب من مدينة روصو.
ولم تقتصر علاقات إدوالحاج الأصيلة والعريقة بزعماء شمامة بل كان لهم حضور قوي في بلاط ملوك إسنغان (كايور) المشهورين بلقب أبْدَمَّلْ (الدامل) بل وفي بلاط مملكة جيولوف، الذين جعلوا من إدوالحاج وزراءهم المقربين ومستشاريهم المؤتمنين. وقد أسست مجموعة إدوالحاج قرية قرب انگيك بالسنغال وسموها وادان تمسكا بمقر أجداهم وتعلقا بموطنهم الأصلي بآدرار مدينة وادان الشهيرة، وكان ذلك في نهاية القرن الثامن عشر في عهد بيراما ملك إسنغان.
وتتفق المراجع التاريخية على أن مجموعة إدوالحاج لعبت دورا كبيرا في تاريخ السنغال في القرون الماضية. ويطلق عليهم في الكتابات الفرنسية والسنغالية اسم “درمانكو” أو “درمانكور”. وتسمية “دارمانكو” أو “دارمانكور” تعود إلى الدور الديني الذي قام به إدوالحاج في مملكة إسنغان حيث كان يطلق عليهم بيضان إسنغان (Naari kajoor)؛ لأنهم كانوا وزراء ومستشاري ملوك إسنغان البيض، وقد أصبحوا بسرعة جزءا من الطبقة الأرستقراطية في المملكة. وكان لملك إسنغان مستشارون ووزراء من الطبقة الإفريقية الوثنية يعرفون “دار-ساكَتِي”، أما وزراؤه ومستشاروه من إدوالحاج فيسمون “دارمانكو” أي أهل الملة الإسلامية، في مقابل المستشارين من غير إدوالحاج وهم “دار-ساكَتِي” أي الوثنيون. فتسمية “دارمانكو” أو “دارمانكور” ترتبط بالدين الإسلامي الذي ميز مجموعة إدوالحاج عن غيرهم نشرا وتعليما في بلاط ملوك إسنغان، فهو لقب ديني تشريفي. وذكر بول مارتي في كتابه عن إمارة الترارزة أن “دار مانكو” باللغة الأعجمية تعني “إنشاء اتحاد”.
والتسمية العامة لجميع إدولحاج بالسنغال عي “دارمانكو” وتحت هذه التسمية مجموعة من الفروع والبطون والعوائل العديدة ومنها: سوگوفارا (Sougoufara)، وحيدرا (Aidara)، وعباس (Abbas)، والحاج (Hadj)، والشريف (Chérif)، وديان (Diagne)، وجاخمبه (Diakhoumpa) وهم من ذرية الحاج عثمان، وسادي (Sady) وأصلهم من تفرلَّه، والرسول (Roussoul)، وتانديني (Tandiné)، ونار (Nar)، وكوندول (Koundoul)، وگومبلَّه (Goumbala) وأصلهم من تمگونَه، وسابرا (Sabara)، وغير ذلك.
وكما كان يطلق على إدوالحاج في الكتابات الفرنسية وفي السنغال اسم “دارمانكو” فإن رئيسهم يسمى في تلك الوثائق “الشمس”، وربما يعود ذلك إلى أن أول من رحل منهم وادان إلى الگبلة هو النجيب بن شمس الدين بن امحمد بن النجيب بن الحاج عثمان الأغماتي الأنصاري، فتكون التسمية جاءت من جدهم شمس الدين بن امحمد بن النجيب. وقد اشتهر الرئيس الثالث من رؤساء إدوالحاج باسمه باب الشمس بن المختار بن الأمين، حيث أصبح لقب الشمس جزءا من اسمه، وقد تسلسل اللقب وصار علما على هؤلاء الرؤساء.
وفي نهاية دولة أولاد رزگ بدأت مجموعة إدوالحاج نشاطها التجاري مع الأوروبيين، وربما كان ذلك مع مطلع القرن السابع عشر، وسنجد خلال ذلك القرن أن رئيس إدوالحاج أشفغ أوبك بن النجيب كان من أول من تواصل مع الأوروبيين وخصوصا الإنجليز، برأي من أخيه الأمين بن النجيب، ودشن ذلك الاتصال عهودا من التعامل التجاري مع الأوروبيين، وستحذو المجموعات القبلية في المنطقة حذو إدوالحاج في هذا المجال.
ولعل هذا السبق الذي أحرزه إدوالحاج في توقيع الاتفاقيات مع الأوروبيين، وفي تدشين التجارة الأطلسية والنهرية معهم، وفي المهارة في التعامل يعود إلى أمور منها:
• أن مجموعة إدوالحاج جاءوا إلى منطقة الگبله من وسط حضري آدراري متمدن، ظل طيلة قرون خلت حلقة الوصل التجارية بين المغرب والأندلس وبين الممالك الغرب إفريقية ألا وهو مدينة وادان، وقد نقلوا من تلك المدينة العريقة تقاليد التمدن، ومهارات التعامل، وأساليب التحضر، وتنظيم التجارة، وبناء العلاقات، وعقد المواثيق.
• ومنها الثقة المبكرة التي نالها إدوالحاج من أمراء أولاد رزگ ومن بعدهم أمراء الترارزة والبراكنة، وكذلك ثقة زعماء شمامة وملوك إسنغان وجيولوف بالسنغال، فقد كانت مجموعة إدوالحاج موضع تقدير واحترام الجميع، بل ربما اتخذ بعض هؤلاء الزعامات من شخصيات إدوالحاج مستشارين مؤتمنين وسفراء معتمدين. هذا فضلا عن علاقات المجاورة المحترمة والمصاهرات المبكرة التي جمعتهم بقبائل المنطقة كتندغه وتاشدبيت وانتابَه وأولاد ديمان وإكمليلن والمجلس وإدابلحسن وغيرهم.
• ومنها كون منازلهم ومرابعهم تقع فيما بين إگيدي ونوللان وبرويت في الجنوب الغربي لمنطقة الترارزة، بين مدينة المذرذره والشاطئ الأطلسي، وغير بعيد من مصب نهر السنغال في المحيط الأطلسي، ومطلة على مراسي البحر والنهر، وعلى الطريق الرابط بين آدرار ومدينة سان لويس (اندر). فقد كان موقعهم الجغرافي يخدم النشاط التجاري، والتواصل بين مناطق الوطن، والعلاقات مع القوى الأوروبية التي ما فتئت تغشى المحيط الأطلسي ونهر السنغال. وكانت هذه المنطقة من بين ثلاث مناطق غنية جدا بالصمغ العربي، وتعرف تلك المناطق في الكتابات الأوروبية بمنطقة الأبيار وهي تحت إشراف إدوالحاج، ومنطقة الساحل وهي تحت إشراف الترارزة، ومنطقة آفطوط وهي تحت إشراف البراكنة (وتسمي منطقة آفطوط في الوثائق الأوروبية بمنطقة الفتاك).
• ومنها أن مجموعة إدوالحاج بمنطقة الگبله استقرت داخلها أسر كثيرة ومن جهات مختلفة ومجموعات متفرقة، وتوطنتها وامتزجت بها، وصارت بحكم اللحمة والعصب جزءا من إدوالحاج، مثل أسر من أولاد بالسباع ومن أولاد امبارك ومن تجكانت ومن أولاد دمان ومن أولاد أبييري ومن إديجب ومن أهل عبَّلَّه ومن غير ذلك. وعلاقتهم بالشرفاء الأجوديين آل حمدي أخص في الامتزاج وأوثق عرى في الانصهار. ونفس التحالف والتناصر الذي وقع مع أهل سيدي محمود بالرگيبه والعصابة وأفله وما تمازج معهم وتعاضد وإياهم واستوطنهم من مجموعات غير حاجية، وقع أيضا مع إخوتهم في الگبلة.
• ومنها الاستقلالية التامة عن الإمارات المجاورة، كإمارة أولاد رزگ أولا، ثم إمارتيْ الترارزة والبراكنة بعد ذلك. فقد كان إشراف مجموعة إدوالحاج على تجارة الصمغ العربي مع الأوروبيين، وتسييرهم للمراسي، وتأمين عملية البيع والشراء بين الأوروبيين والموريتانيين، كل ذلك تم ويتم تحت إشراف ورقابة وتدبير الشمس شيخ إدوالحاج وحاشيته ومقربيه، ولا دخل لأي سلطة غيره في ذلك. وكانت إمارة الترارزة تحترم للشمس الحاجي مجاله الترابي، وتسييره لموسم بيع الصمغ العربي للأوروبيين الذي يشرف عليه هو بنفسه.
• ومنها أن الشمس شيخ إدوالحاج ووفده كانوا يحظون عند نزولهم بمدينة سان لويس (اندر) بمراسيم برتوكولية خاصة مثل إطلاق المدفعية لتحيتهم، والإكراميات التي يستلمون لضيافتهم، وتشير بعض مواد الاتفاقيات التي بين أيدينا إلى استلام إداولحاج بعض الأسلحة من الفرنسيين (كالبنادق، ودقيق البارود) تفوق أحيانا في كميتها ما ورد في مثيلاتها مع الترارزة والبراكنة إذا ما قورنت بها، وهذا شيء ملفت للانتباه بالنسبة لقبيلة زاوية غير محاربة.
• ومنها أخيرا أن مجموعة إدوالحاج هم المسؤولون عند بداية كل موسم عن تحديد سعر قنطار الصمغ العربي كم سيكون. والقنطار هو الوحدة التي كان الأوروبيون والموريتانيون يجعلون منه معيارا لكميات الصمغ العربي ومقياسا لوزنها، وهو قريب من 100 كلغ. وإذا حدد الشمس الحاجي سعر قنطار الصمغ العربي عند بداية السنة فإن ذلك يسري على الجميع وتعتمده جميع المراسي في تلك السنة كما تذكر بعض المراجع الفرنسية. ويبدو أن هناك عرفا متبعا وتقليدا جاريا بين الإمارات التي تشرف على مبادلات الصمغ العربي، والمجموعات التي تبيعه على جعل هذه الثقة في الشمس الحاجي وحده. وهو ما يذكرنا بعادة عربية قديمة توحي بالثقة وتجسد معنى الاعتبار، وهو ما يعرف بنسأة العرب وهم بنو كنانة بن خزيمة، وكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليهم، فحرموا الأشهر الحرم الأربعة: رجبا، وذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم. فإذا أرادوا أن يحلوا منها شيئا أحلوه وحرموا مكانه غيره. وقال في ذلك عمير بن جذل الطعان الكناني:
وَنَحْنَ النّاسِئُونَ عَلى مَعَدٍّ ۞ شُهُورَ الحِلِّ نَجْعَلُها حَرامَا
هذه الأسباب ميزت مجموعة إدوالحاج عن غيرها، وأهلتها لتصدر الأنشطة التجارية والاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر. وأي قراءة في المعاهدات التي أبرمها إدوالحاج مع الفرنسيين، وذكر هذه المجموعة في المراجع الفرنسية والسنغالية، يدعو إلى ضرورة دراسة دورها المتميز والمتصدر والوقوف على معانيه ودلالاته.
اتفاقيات إدوالحاج والفرنسيين.. مهارة في العلاقات وحصافة في التعامل
بخصوص تفاقيات الفرنسيين فربما كان رئيس إدوالحاج الشمس المختار بن باب الشمس بن المختار بن الأمين دفين العرش بمنطقة الترارزة، أولَ من وقع معاهدة مع فرنسا، وكان ذلك في 2 مايو 1785م، وقعها مع جان بابتيس ليونار دوران (Jean-Baptiste-Léonard Durand)، وسيوقع نفس التاجر وبعد أسبوع من توقيع اتفاقية إدوالحاج اتفاقية مع أمير الترارزة اعلي الكوري. ونص هذه الاتفاقية بين دوران وإدوالحاج من بين النصوص التي نشرها الفرنسيون مؤخرا.
وقد تم توقيع هذه الاتفاقية باسم الشمس المختار بن بابه الشمس جماعة من إدوالحاج تبلغ أحد عشر رجلا من بينهم: عمه محم بون بن المختار بن الأمين، وأخوه حبيب الله، وجيرنو سك فارا، ومحنض بابه، وعبد الرحمن، وزياد، وبيبلُّو الجكني نسبا الحاجي وطنا، وزين بن امحمد بن الحسين الامباركي نسبا الحاجي وطنا (وقد ذكر المختار بن حامدٌ أنه من أولاد الناصر ولعله سبق قلم، ففي نظم المختار بن بابه بن حمدي لأنساب إدوالحاج أن أصله من أولاد امبارك)، والمختار بن محمود البديري، نسبة إلى بدير، وتميز رجال أهل بدير بالعلم والقضاء والثروة والرئاسة، واشتهر بعضهم بكونهم كتابا للأشماس. وتوضح أسماء الموقعين على هذه الاتفاقية ما ذكرناه آنفا من أن مجموعة إدوالحاج انصهرت فيها أسر كثيرة من مجموعات شتى، وصارت بحكم العصب والتقارب والتآلف جزءا من المجموعة.
أما الاتفاقية الثانية فقد تم التوقيع عليها في 30 يونيو 1819، وقد وقعها محمذ أغربظ الأول بن الشمس المختار بن باب الشمس الحاجي، ووقعها من الجانب الفرنسي الوالي العام بالسنغال جوليان ديزيريه شمالتز (Julien-Désiré Schmaltz). ومحمذ أغربظ هو دفين العرش، ولم يعقب سوى الشمس المختار وفاطمة أم آل حمدِ وجليت أم آل امحمد الامين بن باب الحاج. وقد عرف عن محمذ أغربظ علاقاته القوية بالزعامات الأميرية والشخصيات المؤثرة في زمنه، وتأثيره الديبلوماسي الذكي. وتدل مواد الاتفاقية التي وقعها معه الفرنسيون على مهاراته القيادة وعلى مراهنة الفرنسيين على قدراته الديبلوماسية الفذة.
أما الاتفاقية الثالثة فتم التوقيع عليها على متن سفينة إيريب الراسية أمام قرية جَكَرْ السنغالية، وقد وقعها الضابط الفرنسي كاي، القبطان الملحق بهيئة الأركان العامة للسنغال، ووقعها معه أعيان من مدينة سان لويس (أولاد اندر) وهم: بروفوست ، وكاربوت وآندريه، وكان ذلك بتاريخ 25 أبريل 1842م، وقد وقعها من جانب إدوالحاج الشمس أحمد ميلود بن الشمس المختار بن الشمس محمذ أغربظ الأول، المتوفى آخر يوم من ديسمبر 1856م.
ويذكر ابن حامدٌ أنه في عهد الشمس أحمد ميلود وقعت الحرب بين الجنرال فيدرب الفرنسي مع موريتانيا، ولما أراد فيدرب الغارة على طرف موريتانيا المتاخم للسنغال دعا الشمس أحمد ميلود وأسر إليه بما يريد من الإغارة على تلك الناحية وأمره أن ينحي عياله ومن يتعلق به، فخرج أحمد ميلود من عنده وأنذر جميع المعنيين من إغارة الجنرال المذكور، فبعث هذا الأخير جيشه، فلم يجد أحدا أمامه وعلم أن سبب ذلك إنذار أحمد ميلود لأهلها، فلما مضى أقل من عامين ولم يحصل من المسلمين إلا مناوشات لا بال لها وتكررت الغارات من الجنرال على الموريتانيين يأخذ أموالهم وأنفسهم حتى صار تحت يده كثير من الأسارى ذكرانا وإناثا ووقعت قبائل الترارزة في أزمة شديدة بسبب قطع تجارة فرنسا وانضم إلى فرنسا بعض القبائل المتاخمة للسنغال، لما وقع هذا كله ذهب أحمد ميلود إلى الجنرال المذكور يفاوضه في الصلح فقال له الجنرال: إني جعلتك موضع ثقتي فخيبت ظني فيك، فقال له أحمد ميلود: إنما خيب ظنك الدين الإسلامي، فإنه لا يحل لي في ديني أن أكتم عن المسلمين ما تريده، وكان الرأي لك أن لا تخبرني بما تريد ولكن توصي الجيش على تأمين رعيتي من الموريتانيين فيحصل ما تريد، فاتفقا على الصلح وذهب أحمد ميلود إلى محمد الحبيب فلم يوافقه على الصلح، فرجع أحمد ميلود معلنا له التصميم على الصلح من دونه نظرا إلى الحالة التي وقع فيها المسلمون فتوفي في أثناء رجوعه آخر يوم من ديسمبر سنة 1856م.
وتقع اتفاقية أبريل 1842م بين الشمس أحمد ميلود وبين الفرنسيين في صفحتين، وهي تحيين وتأكيد لاتفاقية يونيو 1817 مع جده الشمس محمذ أغربظ.
أما الاتفاقية الرابعة والأخيرة فهي موقعة من طرف نفس الجهتين أي الشمس أحمد ميلون والقبطان كاي وكانت بتاريخ 1 مارس 1847م بينها وبين سابقتها خمس سنوات. وقد حسنت هذه الصيغة من الشروط المتفق عليها بخصوص المكافآت والإكراميات التي يدفعها الجانب الأوروبي للشمس ومعاونيه.
وقد كتب الاتفاقيتين الموقعتين مع الشمس أحمد ميلود حماد بن انداي آن (اندَيَانْ) وهو جد أولاد أبنُ المقداد من الأم كما أنه صهر وزير البراكنة الترجمان الشهير المختهار انجاك كما رأينا في النص الخاص بوثائق إمارة البراكنة.
وفي الختام
هذه وثائق ومعاهدات حصلت بين مجموعة إدوالحاج والفرنسيين طيلة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهي تعكس معان كثيرة ودلالات متسعة وقفنا على بعضها، ونعيد القول إن من أبرزها هذه المهارة الدبلوماسية وهذه القدرة على كسب ثقة مختلف الأطراف من إمارات حسانية مغفرية ومن ممالك إفريقية في شمامة وإسنغان وجيولوف. ولعلنا لا نبتعد عن الصواب إن قلنا إن مما تدل عليه هذه النصوص والنصوص القريبة منها أن الأدوار الديبلوماسية التي قامت بها مجموعة إدوالحاج بين إمارة الترارزة وبين الممالك الإفريقية، وبينها وبين الفرنسيين كان موفقة في كثير من الأحيان. فقد كان للشمس ولوزرائه ومقربيه علاقات وثيقة جنوب النهر خصوصا وأن الكثير من الأسر الحاجية أصبحت جزءا من النسيج الاجتماعي في إسنغان وجيولوف، وقد خدمت هذه العلاقات السلم الأهلي، وفتحت سبلا كثيرة للتعاون والتبادل والتأثير الإيجابي والتأثر المثمر.
وفي اعتقادي أن ما ذكره المؤرخ الجليل القاضي صالح بن عبد الوهاب الناصري في كتابه الحسوة البيسانية عندما زار أولاد اخليفة من أولاد رزگ في إبريل 1809 قريبا ضفة نهر السنغال، وكان يومها في سفارة قاصدا أبْدَمَّلْ ملك إسنغان من السودان رسولا من أعمر بن المختار بوكعبة بن الشرقي بن اعلي شنظوره أمير الترارزة، أنها لهذا علاقة وثيقة بما نتحدث عنه هنا.
ونحن نعرف أن القاضي صالح بن عبد الوهاب ليس غريبا على هذه المنطقة خصوصا وأن بها بني عمومته قبيلة انتابَه ذات التأثير الاجتماعي المشهود، يضاف إلى ذلك أنه يوجد من بين وزراء الشمس المختار بن بابه الشمس الحاجي في بداية القرن التاسع عشر الميلادي المؤثرين والحاضرين حضورا قويا زين بن امحمد بن الحسين الامباركي، ونعرف أن صالح بن عبد الوهاب استقضاه أولاد امبارك زمنا طويلا وكان مقربا من سلاطينهم أثيرا عندهم. ولا شك أن تأثير هذا الوزير الامباركي البالغ في مملكة إسنغان قد يكون عاملا مساعدا في سفارة القاضي صالح، وقد يسهل وفادة هذا القاضي الجليل في بلاط ملك إسنغان. وأعتقد أن الأمير أعمر بن المختار كان بحاجة إلى التحالف مع أبْدُمَّلْ ملك إسنغان، خصوصا وأن مملك شمامه يريم امبانييك (Yerim M’Bagnik) كان إلى جانب عمير بن سيدي المختار بن الشرقي وامحمد ولد اعلي الكوري المناهضين للأمير أعمر بن المختار. بل إن يريم امباننيك حضر بجيوشه يوم تيورْورْتْ سنة 1822م إلى جانب الحلف المعارض لأعمر بن المختار. فقد تكون سفارة القاضي صالح بن عبد الوهاب في سياق استمالة ملك إسنغان إلى جانب أعمر بن المختار، ويكون زين بن امحمد بن الحسين الامباركي وزير الشمس المختار بن بابه الشمس الحاجي قد مهد لهذه السفارة، التي يقوم بها ابن عمه الجليل القاضي صالح بن عبد الوهاب، بعلاقاته وسعى لإنجاحها بتأثيره القوي.
سيد أحمد بن الأمير / أكاديمي موريتاني