يمكن القول إن النقاش الفلسفي المعقد الدائر حالياً بخصوص الذكاء الاصطناعي، يتمحور حول السؤال المتعلق بإمكانية الانتقال من الحواسب الذكية إلى الروبوتات الواعية. منذ ديكارت، أصبح مفهوم الوعي هو قطب التفكير الفلسفي، في تحديد علاقة الطبيعة بالذات الإنسانية، وقد عُرف هيغل بأنه الفيلسوف الذي بنى نسقَه الفكري بكامله على اكتشاف الوعي بالذات الذي هو في الآن نفسه مبدأ عظمة العصور الحديثة حسب عبارته. ومع أن الفلسفة الطبيعية منذ الفيلسوف الإنجليزي دافيد هيوم وجَّهت نقداً جذرياً لفكرة الوعي في أبعادها المتعالية، بما وصل مداه في الأطروحات الوضعية الرافضة لتميز واستقلالية الفكر الإنساني عن مسارات التجربة الحسية، فإنها حافظت على جوهر مقولة الوعي في أبعادها القيمية والرمزية التي هي أساس النزعات الإنسانية المعاصرة. لكن مع حركية الذكاء الاصطناعي المكتمل، عاد النقاشُ مجدداً حول تميّز الوعي الإنساني وخصوصيته في مقابل ظواهر الطبيعة والتقنيات المعرفية الجديدة.
وفي هذا الباب، انتشرت أعمالُ الفيلسوف الأميركي «دانيال دنت» الذي كتب في السنوات الأخيرة عدةَ مؤلفاتٍ حول ما سمَّاه «وهم الوعي»، أراد فيها هدم «المسرح الديكارتي» حسب عبارته. ما يرفضه «دنت» هو الثنائية الديكارتية بين الذات المفكرة المنفصلة عن الطبيعة وبين الظواهر الفيزيائية المادية التي تحكمها قوانينُ الامتداد والحركة. وبالنسبة لدنت لا يوجد «أنا كامل ومجرد» قادر على ضبط الحياة العقلية للبشر، إذ ليس في الدماغ نقطة مركزية للتفكير والوعي، بل موجات متناثرة متعددة لا شيء يربط بينها. وما يحدث هو أن الإنسان يُسقط ذاتيتَه المتوهَّمةَ على التموجات الدماغية، ولا مانع اليوم أن تكتسب الأجهزةُ الآلية هذه القدرات الواعية البشرية على أساس طبيعي رياضي.
ومن هذا المنظور، لا نفتأ نقرأ في أيامنا هذه لكتَّاب عديدين حول الذكاء الاصطناعي يدافعون عن مقولة «ما بعد الإنسانية»، ويرفضون الفصلَ الجذريَّ بين الطبيعة والإنسان، معتبِرين أن هذه الفكرة ليست كونيةً، بل هي خاصة بالثقافات الغربية، على عكس المجتمعات البوذية والكونفشيوسية التي تؤمن بوحدة وتداخل الإنسان والطبيعة الجامدة. ووفق هؤلاء الكتاب، فقد خضعت فكرة استقلالية الإنسان لمراجعات مستمرة، إذ بعد أن كانت ترتكز على الروح والعقل، غدت تتمحور حول الشعور والحس الإبداعي، ولا شيء يمنع اليوم من صناعة أجسام عاقلة وواعية ومبدعة مؤهلة لأن تدمج في المنظومة الحقوقية الموسّعة التي ينادي البعضُ بتعميمها على الكائنات الطبيعية نفسها من أنهار ومحيطات وغابات..إلخ.
ليس من همِّنا الحالي حسم النقاش المعقَّد حول آفاق الذكاء الاصطناعي القوي أو المكتمل الذي يمكِّن الجهازَ التقني من الحصول على المؤهلات الإنسانية الخاصة (من وعي وشعور.. إلخ)، بيد أن هذا الجدل في ذاته ليس جديداً، وإن دخل في منعرجات خطيرة وحاسمة يتوقف عليها مصير البشرية في عدة مناح محورية. ولا بد من التَّنبيه هنا إلى أن النزعة الطبيعية المادية تعبّر عن موقف فلسفي ميتافيزيقي له جذوره البعيدة، وإن استندت اليوم إلى مؤشرات راهنة في التقدم العلمي. كما أن فكرة استبدال اللغة الطبيعية بلغة صناعية حسابية ظهرت منذ منطق أرسطو، وهي أساس مشروع ديكارت ولايبنتز في بناء الرياضيات الشاملة التي تستوعب كافة المعارف الإنسانية.
ومن هذا المنظور يبين الفيلسوف الأميركي «هبرت دريفوس» في كتابه «نقد العقل الاصطناعي» أن أطروحة التماهي بين العقل الإنساني والعقل التقني الذكي تقوم على فرضيتين نظريتين زائفتين، الفرضية الأولى ذات طابع أنطولوجي تتمثل في القول بأن العالَم يمكن أن يُرَدَّ إلى عناصر منطقية متمايزة ومنفصلة عن بعضها البعض، والفرضية الثانية إبستمولوجية تكمن في القول بأن فهْم العالَم يتم عن طريق التركيب بين تلك العناصر المنطقية. ومن ثم يكون التفكير هو عملية التأليف بين وحدات مشتتة متناثرة. لكن هذه المقاربة تهمل، حسب دريفوس، الأفقَ التأويلي للفكر الإنساني الذي لا يمكن اختزاله في العمليات المنطقية الصورية، لأن عناصر الدلالة الأولية تخضع لسياقات تفسيرية متعددة ومتباينة.
ومن هنا نخلص إلى أن ما يميز الإنسان عن الآلة هو كون الأخيرة تظل في مستوى الظواهر والوقائع، بينما تتسم الثقافة الإنسانية بالأبعاد الرمزية التأويلية التي لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصل إليها. كان هايدغر يقول إن ما يميز الشيء عن الموضوع ليس طبيعته في ذاتها، وإنما الدلالة القصدية التي يمنحها له الإنسان. ولذا يمكن القول إن الآلة قد تبدع كل المواضيع الخارقة، لكنها لن تصنع أبسط الأشياء (بالمفهوم الهايدغري للشيء).
أ.د السيد ولد أباه / مفكر موريتاني