يورام حازوني، فيلسوف إسرائيلي، درس وعاش طويلًا في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو حاليًّا رئيس مؤسسة إدمون بورك في لاهاي، وله تأثير واسع في صفوف الجاليات اليهودية وفي أوساط الشعبويين القوميين الجدد في أوروبا، وفي مقدمتهم رئيسة الوزراء الإيطالية جورجا ملوني التي أعلنت تأثرها الصريح بأفكاره.
ليست لحازوني أفكار فلسفية عميقة أو جادة، لكنه نشر كتابين بالإنجليزية أثارا جدلًا واسعًا في الغرب. أحدهما بعنوان “فضيلة القومية” (2018) والثاني بعنوان “النزعة المحافظة: إعادة اكتشاف” (2022). في الكتابين، يدافع حازوني عن قيم القبلية والطائفية الدينية ويعتبرها السياق التاريخي الضروري لقيام الأمم والدول. الأمة بالنسبة له ليست سوى أسرة كبيرة أو حالة قبلية موسعة تتأسس على الولاء والتلاحم، في مقابل التصور الليبرالي التنويري الذي يختزل الرابطة السياسية المدنية في التعاقد الحر بين أفراد مستقلين ومتمايزين.
ولا يخفي حازوني جذوره اليهودية في تصوره لمركزية العقد الإلهي والشرائع المقدسة في بناء المجتمعات والدول، بما يقربه من التيار الصهيوني الديني المتطرف الحاكم راهنًا في إسرائيل.
ليس من همنا عرض أفكار حازوني التي لا تخفى ضحالتها النظرية وخطورتها السياسية، لكن لا مفر من الإقرار أن هذه الآراء أصبحت اليوم حاضرة بقوة لدى النزعات القومية الجديدة المسيطرة إلى حد بعيد على الحقل السياسي في أكثر الديمقراطيات الغربية. فمن الواضح أن أكثر من نصف بلدان أوروبا تديرها أنظمة حكم تنطبق عليها صفة “الديمقراطية غبر الليبرالية”، وفق عبارة فيكتور أوربان، رئيس وزراء هنغاريا.
لا بد من التنبيه هنا إلى أن النزعة القومية المحافظة، تختلف نوعيًّا عن تقليدين معروفين جدًا في الفكر الغربي الحديث: الفكرة القومية التي تشكلت في إطار المنظور الكوني لفلسفات الأنوار في مقوماتها الإنسانية المنفتحة، والفكرة المحافظة التي شكلت سابقًا أحد الروافد الأساسية للتيار الليبرالي.
وسواء تعلق الأمر بالتصور السياسي القانوني للقومية لدى المفكر الفرنسي أرنست رنان أو بالتصور الثقافي الروحي لدى الفيلسوف الألماني فيخته، فإن فكرة الأمة تحمل دلالة الارتباط العضوي داخل مجموعة ملتحمة من الأفراد تجمعهم قيم إنسانية مشتركة لا هوية قبلية أو دينية مسبقة.
لقد اعتبر مفكرو القومية المحدثون في فرنسا وألمانيا أن الأمة وإن كانت تعبيرًا عن هوية وطنية مستندة إلى تراث وتاريخ خاصين، إلا أنها من وجه آخر التجسيد التاريخي لفكرة المطلق الكوني من خلال تجارب حية ملموسة قابلة للتصدير إلى باقي البشرية.
إنه نفس التصور الذي انطلق منه مفكرو القومية العرب الأوائل في نبذهم المنظور العنصري العرقي للأمة، واعتبارهم العروبة رسالة إنسانية وقيمًا كونية (كما هو واضح في كتابات ميشل عفلق وقسطنطين زريق مثلًا).
وإذا كانت النزعة المحافظة الأوروبية -ومثالها الأوضح الفيلسوف الإيرلندي إدموند بورك- قد وقفت بوضوح ضد الثورات السياسية الراديكالية مثل الثورة الفرنسية، إلا أنها حاربت المثل التنويرية التعاقدية بالمفاهيم الليبرالية من حرية طبيعية وإصلاح سياسي، واعتبرت أن التقليد هو إطار البناء السياسي المتجدد وفق المصالح البشرية المتغيرة كما تدل عليه “الثورة المجيدة” الإنجليزية والثورة الأمريكية. لم تكن النزعة المحافظة في صيغتها الأولى مناوئة إذن لليبرالية، بل إنها دافعت عن المقاربة النفعية البرغماتية لليبرالية في مواجهة استبدادية الدولة الشمولية التي تدعي القدرة على التعبير عن الإرادة الجماعية المشتركة.
ولقد تبنى التيار المحافظ في الغرب الأفكار النيوليبرالية التي اعتمدتها رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارغريت تاتشر والرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغن، وهي في جوانبها النظرية تعود إلى الاقتصادي الأمريكي ملتون فريدمان والفيلسوف البريطاني فردريك حايك في نقدهما الجذري لليبرالية الاجتماعية ودفاعهما عن القيم الفردية ونظام التبادل الحر الذي يقوم عليه اقتصاد السوق. إن هذه الأيديولوجيا المحافظة هي أبعد ما تكون عن الاتجاهات القبلية والطائفية والإثنية للقومية المحافظة الراهنة.
التحول الكبير الذي عرفته الديمقراطيات الغربية في السنوات الأخيرة يتركز في مسارين هما: تحول أحزاب اليمين من الأفكار الليبرالية العلمانية والإنسانية إلى النزعات الوطنية الضيقة، وتحول المنظومة الليبرالية من فكرة الحرية الفردية بدلالاتها الكثيفة إلى فكرة تسليع الحياة الرمزية الإنسانية التي لم تكن تخضع لقانون المنفعة والتبادل التجاري.
وفق المسار الأول، لم يعد اليمين في أوروبا يشكل الوجه الآخر للرابطة المدنية الحقوقية للدولة (في تركيزه على الحرية الفردية وقيم المواطنة) في مقابل اليسار (في دفاعه عن العدالة الاجتماعية والتوزيعية)، بل أصبح همه الأوحد هو الدفاع عن الهوية الوطنية الخصوصية مختزلة في تركيبة عرقية ودينية أصلية (زائفة ومختلقة في غالب الأحيان) بما يتنافى في الجوهر مع التصور الليبرالي التقليدي. ما يبينه المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما هو أن اليمين استوحى فكرة الدفاع عن الهوية الخصوصية من اليسار وإن كان غير مجرى النزعة الهووية من المكونات الاجتماعية التي يراد لها الاعتراف والدمج (المجموعات المهمشة أو المقصية) إلى الجسم الوطني الأشمل منظورًا إليه كهوية أحادية مهددة بالمسخ والضياع. لا فرق هنا بين الهوية اليهودية للدولة الإسرائيلية (في نفيها لخمس سكانها من العرب وتنكرها للتيار العريض الرافض للتصور الديني للمواطنة)، والهويات القومية المصطنعة التي تدافع عنها الأحزاب الشعبوية اليمينية الجديدة في أوروبا.
وفق المسار الثاني، نلمس التحريف الهائل الذي مس الفكرة الليبرالية التقليدية، باعتبارها حافظت على الحد الفاصل بين اعتبارات السوق والتبادل التجاري من جهة، ومحددات الحقل السياسي والاجتماعي وكل ما يدخل في المجال الرمزي البشري من جهة أخرى. ولا شك في أن قيام الرأسمالية المعولمة الجديدة المعتمدة على الاقتصاد غير المادي والذكاء الاصطناعي يقوض المرتكزات الإنسانية والتحررية الأصلية في النزعة الليبرالية التي قامت تاريخيًّا من أجل الذود عن حرية الإنسان، وكرامته وحقوقه.
وحاصل الأمر أن النزعة القومية المحافظة التي يحاول يورام حازوني صياغتها فلسفيًّا، كما نلمسها حاضرة في أيامنا لدى قطاع واسع من السياسيين الغربيين، تتعارض في الجوهر، والتصور والغاية مع الفكرتين القومية والمحافظة، ومن ثم لا بد من مواجهتها، وإبراز خطورتها وضحالتها الفكرية والأخلاقية.
الدكتور السيد ولد أباه / مفكر موريتاني