عبارتان وردتا مؤخراً على لسان رئيسي دولة، تعبّران عن صراع الأفكار الدائر راهناً في العالَم. الأولى استخدمها الرئيس الفرنسي ماكرون، وهي مقولة «الانسلاخ الحضاري» Décivilisation التي أثارت جدلا واسعاً في الوسط السياسي والفكري.
أما الثانية فهي مقولة «الجنوب الشامل Global South التي وردت على لسان الرئيس البرازيلي لولا دي سيلفا في سياق التوجهات الاستراتيجية الجديدة لبلاده.
الإشكالية التي طرحها مفهوم «الانسلاخ الحضاري» تتعلق بتداوله الواسع في أدبيات اليمين المتطرف، بما ظهر في كتابات «رنو كامي» واضع نظرية «الاستبدال الكبير» التي هي المرجعية الأيديولوجية السائدة لدى القوميين الراديكاليين الفرنسيين في نظرتهم للهجرة الزاحفة من خارج العالم الغربي بما تطرحه من تهديد عميق لـ«الهوية الحضارية» للمجتمع الفرنسي في انسجامه وتجانسه العرقي والديني. لقد استخدم ماكرون هذه المقولة في شجبه لحالة العنف المتنامي لدى قطاع واسع من المجتمع الفرنسي المتمرد على شرعية الدولة وسلطة المؤسسات العمومية.
ولعل ماركون يرجع هنا إلى عالم الاجتماع البريطاني الألماني نوبرت ألياس الذي كان أول من صاغ مقولة الانسلاخ الحضاري خلال العهد النازي في ألمانيا، معتبراً أن سياسات العنصرية المتوحشة التي سادت أوانها هي مظهر لتراجع المسلكيات الحضارية التي عرفتها المجتمعات الأوروبية منذ عصر النهضة، وهي في عمومها ترتكز على استبطان ثقافة الرقي والاحترام واللطف والتحكم في الغرائز العنيفة والميول العدوانية. إلا أن كلمات ماكرون وُظّفت كما هو متوقع في الحوار السائد حالياً في فرنسا وفي بقية الدول الغربية حول قيم التقليد والسلطة والطاعة في مجتمعات تتزايد فيها وتيرة الفردية المشطة في الذاتية، وتتراجع فيها هيبة الدولة وفاعلية المؤسسات العمومية، حيث أصبح القانون بديلا عن الأخلاق الجماعية وغدت قيم السوق النفعية بديلة عن التقاليد السلوكية المتوارثة. في هذا النقاش ذي الخلفيات الفلسفية المعقدة، يتصادم منطق الانتماء العضوي ومنطق الفردية الليبرالية في جدل سياسي وأيديولوجي متصاعد.
أما مقولة «الجنوب الشامل» التي لها جذور بعيدة تحيل إلى مفهوم «العالم الثالث» المتجاوز، فقد ارتبطت مؤخراً بعالم الاجتماع البرتغالي المقيم في الولايات المتحدة «بوفانتورا دي سانتوس» الذي أصدر كتاباً هاماً بعنوان «ابستمولوجيات الجنوب» (Epistemologies of the South).
في هذا الكتاب يتحدث المؤلف عن ضرورة قيام «عدالة معرفية شاملة» تخرج الفكر الاجتماعي من المركزية النقدية الأوروبية، بغية الاعتراف بسردية الجنوب الذي خضع لمسار طويل من التهميش والاستغلال والاحتواء، بحيث غدت مفاهيم ومرتكزات العلوم الإنسانية ملغومةً بهذه التشوهات المنهجية الأصلية.ويستلهم دي سانتوس أفكارَ المدرسة ما بعد الكولونيالية وشعارات حركة العولمة البديلة، وإن كان يمنحها قوةً نقديةً راديكالية غير مسبوقة.
إلا أن أطروحة «الجنوب الشامل»، التي تعرف رواجاً واسعاً في أيامنا في الساحات الهندية والبرازيلية والأفريقية، لا تنفصل عن اتجاهين جديدين، برز أحدهما بقوة في الحقل الأكاديمي والثقافي الأميركي وبرز الآخر في السياق الاستراتيجي للعلاقات الدولية.
لقد عرف المسار الأول بمفهوم اليقظة wokism وبعبارة ثقافة الإلغاء «cancel culture وهما مقولتان تفيدان ضرورةَ محاربة التمييز والإقصاء في الصياغات الفكرية والعلمية، لكشف رهانات الهيمنة الخفية الهادفة إلى استمرارية سيطرة العرق الأبيض وتحكم السلطة الذكورية من خلال تصورات ومصطلحات تبدو محايدةً معرفياً، وإن كانت في حقيقتها من أدوات القمع والرقابة والتسلط. لقد كثُر الحديث عن ظاهرة «اليقظة» بعد حادثة مقتل الأميركي الأسود جورج فلويد على يد الشرطة في مدينة مينابوليس عام 2020 وما أفضت إليه من قيام حركة «حياة السود مهمة» Black Lives Matter.
وفي السياق الاستراتيجي، ظهرت دعواتٌ متزايدةٌ إلى ضرورة بناء كتلة جنوبية متضامنة في مواجهة الاستقطاب الدولي الجديد، على أساس الدور المستقل والفاعل للقوى الإفريقية الآسيوية واللاتينية الأميركية، بما تجلى في الخطاب السياسي الرسمي في جنوب أفريقيا والبرازيل وتركيا، وحاولت الصين توظيفَه في صراعها المحتدم مع الولايات المتحدة الأميركية. مفهوم الجنوب الشامل هو بهذا المنظور البديل الجديد لخيار عدم الانحياز والتجسيد الراهن للفكرة الأفروآسيوية من خلال توسيعها لبلدان أميركا الجنوبية الصاعدة وفي مقدمتها البرازيل.
ومع أن مقولتي الانسلاخ الحضاري والجنوب الشامل تحيلان إلى خلفيات متباينة، فإنهما مرشحتان للتصادم مستقبلا، على خط المرجعية الحضارية التي تعني في خطاب النخب الأوروبية الدفاع عن قيم الحداثة الليبرالية الكونية في حين تعني في أيديولوجيا التحرر الجنوبي التخلصَ من مركزية الغرب معرفياً وسياسياً والدفاع عن خط الذاتية الحضارية المستقلة.
الدكتور السيد ولد أباه / مفكر موريتاني