spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

تركيا والعالم العربي: عبء الذاكرة ورهانات المستقبل

مهما كانت نتائج الشوط الثاني من الانتخابات الرئاسية التركية (التي من المرجح أن يفوز فيها الرئيس رجب طيب أوردغان)، لا مناص من التأكيد على عمق الشرخ السياسي والاجتماعي في الساحة الداخلية التركية بامتداداتها الإقليمية.

بعد عشرين سنة من حكم حزب العدالة والتنمية، لا يبدو أنه نجح في إعادة صياغة الهيكلية السياسية للمجتمع التركي، وإن نجح في توطيد التحالف مع القوميين الأتراك في مواجهة النخب الحداثية والعلمانية التي ما تزال وفية لمشروع مؤسس الدولة الحديثة مصطفى كمال أتاتورك.

وفق المعلومات التي انبثقت عن الانتخابات الأخيرة، ما تزال القطيعة عميقة بين منطقة الأناضول المركزية المحافظة التي هي القاعدة الانتخابية الصلبة للرئيس أوردغان، والمناطق الشاطئية الغنية والمتطورة التي صوتت لمرشح الأحزاب العلمانية والكتلة الليبرالية النشطة في كبريات المدن مثل أنقرة وإسطنبول.

ومن المتوقع أن يحتفل الرئيس أوردغان بمئوية الجمهورية التركية (29 تشرين الأول/أكتوبر 2023) وهو على رأس الدولة، وإن كان أخفق عمليًّا في تغيير مرجعية الدولة الدستورية والثقافية، على الرغم من تصريحاته المثيرة ورفعه في بعض المراحل شعارات الإسلام السياسي.

لقد مضت تلك الحقبة التي كان أوردغان يطمح فيها إلى زعامة العالم الإسلامي والسيطرة على الساحة العربية من منطلق مشروع “العثمانية الجديدة” الذي بلوره وزير خارجيته الأسبق أحمد داوود أوغلو (الذي التحق في ما بعد بالمعارضة) في كتابه “العمق الإستراتيجي” الذي صدرت طبعته التركية عام 2001.

في الكتاب المذكور، يتحدث أوغلو عن تركيا بصفتها دولة إقليمية مركزية مؤثرة في مجالها الحيوي الواسع الممتد من البحر الأسود ومنطقة البلقان والقوقاز إلى البحر المتوسط وأوروبا، بما يفرض عليها بلورة ديبلوماسية نشطة مستندة إلى المرجعية الحضارية الإسلامية التي هي الترجمة الراهنة للهوية العثمانية للدولة.

لقد أرسى أوردغان قطيعة حاسمة مع الإرث الأتاتوركي في توجهاته الاستراتيجية المحددة بالانتماء الغربي والطموح إلى الاندماج في المنظومة الأوروبية، وحرص في المقابل على أن تكون بلاده محورًا للدوائر الإسلامية الثلاث، في الشرق الأوسط بمفهومه الواسع الذي يمتد لشمال إفريقيا، وبلاد البلقان، وجنوب آسيا. بيد أن سياسات التدخل في أزمات العالم العربي فشلت كليًّا، ودفع أوردغان غاليًا ثمن مغامراته في المنطقة، منتهيًا في الفترة الأخيرة إلى السعي لترميم صلاته البلدان الخليجية والشرق أوسطية.

ومن الواضح أن ما كان يسمي في العقد الماضي بالنموذج التركي القائم على “الإسلام الديمقراطي المحافظ” والتنمية الاقتصادية السريعة قد انحسر كليًّا، ولم يعد قادرًا على استقطاب حقيقي لقوى التغيير في العالم العربي.

والحقيقة أن التجربة التركية المعاصرة، على الرغم من تداخلها الكثيف مع تاريخ وأوضاع العالم العربي ما تزال مجهولة إلى حد بعيد في الكتابات العربية الحاضرة.

في هذا السياق، تطرح ثلاث إشكاليات كبرى هي: علاقة الحالة الوطنية التركية مع الإرث العثماني، وطبيعة التجربة التحديثية التركية في بنائها الدستوري والسياسي والمجتمعي، وطبيعة النظام السياسي الحاكم منذ عقدين في أنقرة من حيث توجهاته الأيديولوجية الإسلامية في نسق علماني ليبرالي.

بخصوص الإشكالية الأولى، ما تزال الدراسات عن التاريخ العثماني قليلة وضحلة في العالم العربي رغم انتماء جل بلدانه إلى الإمبراطورية العثمانية لمدة قرون طويلة. في هذا السياق ، تفيدنا الدراسات المهمة لعالم الاجتماع التركي شريف ماردين (المتوفى عام 2017)، إذ بين بوضوح أن نظام السلطنة العثمانية اختلف جذريًّا عن طبيعة الدول والسلطنات التي حكمت العالم الإسلامي سابقًا. ما يهمنا هنا هو التنبيه إلى الجذور العثمانية للدولة التركية العلمانية الحديثة، باعتبار أن السلطنة قامت تاريخيًّا على نظام خاص لإدارة التنوع الديني والاجتماعي للإمبراطورية الواسعة، وفق مسلك يجمع بين المركزية الإدارية والعسكرية والجبائية والاستقلال النسبي للمجموعات المحلية التي تتحكم فيها إلى حد بعيد نخب الأطراف والهوامش.

بحسب هذا النظام، لم تكن السلطنة دولة إسلامية بالمفهوم الديني، وإن رفعت شعار الخلافة في بعض اللحظات وكرسته في نهاية القرن التاسع عشر خلال عهد السلطان عبد الحميد الثاني. المثير في الأمر أن التحول إلى الخلافة واكبته ديناميكية الإصلاحات السياسية التي عرفت بالتنظيمات (من 1839 إلى 1876)، وقد أفضت تحت الضغوط الأوروبية إلى إعلان مبدأ المواطنة المتساوية، والحرية الدينية ونظام التمثيل الانتخابي.

بيد أن ما يؤكد عليه شريف ماردين هو أن الجمهورية التركية الحديثة كانت في عمقها امتدادًا للتركة العثمانية في مستويين أساسيين هما من جهة الهوية القومية للمجتمع التركي من حيث هو مجتمع مسلم سني ناتج عن عملية الفصل والتهجير الكبرى التي تشكلت على أساسها الدولة الحديثة، ومن جهة أخرى هيمنة الدولة على الحقل الديني الذي يميز العلمانية التركية عن اللائكية الأوروبية في فصلها الحاسم بين الدولة والمجال الديني. ومع أن أتاتورك ألغى الخلافة رسميًّا عام 1924، إلا أن مشروع بناء الهوية الوطنية قام على ركيزتي: التتريك الثقافي واللغوي القسري والانسجام الديني، بما يفسر سيطرة الدولة على الحقل الديني رعاية وتمويلًا وتنظيمًا.

ومن هنا ندرك أن الدولة وإن كانت أقصت الدين من الشأن العمومي، إلا أنها حافظت على حيويته في المجتمع الأهلي، من خلال المؤسسات الصوفية والتعليمية، بما يفسر نشوء حركات الإسلام المؤدلج على أرضية المجتمع الأهلي وفق ضوابط وشروط العلمنة الدستورية.

ومع أن الأحزاب الإسلامية تصدرت المشهد السياسي منذ حكومات نجم الدين أربكان في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي إلى حكم الرئيس الحالي أوردغان، إلا أنها لم تستطع تغيير طبيعة النظام العلماني الليبرالي في تركيا، بل تبنت علنًا الحفاظ عليه والدفاع عنه.

ويبدو من المؤشرات الراهنة، أن أوردغان تحول تدريجيًّا إلى نمط من الزعيم القومي المحافظ، بما أفقده دعم قطاع واسع من حركات الإسلام السياسي، وإن كان استغل ببرغماتية ناجعة الشعارات الإسلامية المؤثرة في المجتمع الأهلي التركي.

spot_img