في حوار أخير معه على شاشة قناة CBS، قال ساندر بيتشاي، رئيس مؤسسة غوغل الشهيرة ذات المحرك البحثي الأهم عالمياً، إن حركة الذكاء الاصطناعي تحتاج إلى فلاسفة ومفكرين في الإنسانيات والأخلاق، وليس إلى المهندسين والفنيين وحدهم.
فالرهان المستقبلي بالنسبة لبيتشاي يتعلق بالثقافة والقيم والأخلاق، وليس فقط بتقنيات الاتصال والطرق السيارة للمعرفة الرقمية، فلا بد بالنسبة له أن «يتأقلم الذكاء الاصطناعي مع القيم الإنسانية».
وقد ذهب إلى الرأي نفسه عددٌ من كبار المتخصصين في الذكاء الاصطناعي في عريضة منشورة، من بين موقعيها «إيلون ماسك» الرئيس الجديد لشركة «تويتر»، و«ستيف وزنياك» مؤسس شركة «آبل» (بمعية شريكه الراحل ستيف جوبيز). والخوف هنا هو من أن تصبح حركة الذكاء الاصطناعي خطراً على صدقية المعلومات ودقتها، وذلك من خلال التلاعب بالمضامين المعرفية للتقنيات التواصلية، والتصرف فيها تضليلا وتوجيهاً، انتهاكاً لمعايير حرية التفكير والوعي التي هي أساس النزعة الإنسانية الحداثية.
بعد الموجة الأولى من الذكاء الاصطناعي، دخل العالَمُ عصرَ التقنيات الذكية القوية، التي قد تكون متمتعة بقدرات الوعي والحرية والإحساس، بما ينذر بنشأة ما أطلق عليه الفيلسوف الفرنسي ليك فري «ما بعد الإنسانية»، وهو العصر الذي سيصبح فيه البشر اليوم «الحيوانات المستخدمة» من الأجهزة الاصطناعية الذكية حسب توقع إيلون ماسك.
لقد بدأ الحديث يعلو بالفعل في كثير من البلدان الصناعية المتقدمة حول اختفاء عدد كبير من الوظائف والأعمال التي سيتم الاستغناء عنها بفضل الذكاء الاصطناعي الجديد، ومنها المهن التعليمية والطبية والمالية.. بل تحدَّث البعضُ عن نهاية مفهوم العمل ذاته الذي تأسست عليه هياكل الدولة الوطنية الليبرالية الحديثة.
ومن ثم لا يتردد بعضُ الكتاب والباحثين في الكلام عن تفكك المجتمعات المعاصرة ونهاية الحرية الإنسانية وعودة الإنسان إلى نمط جديد من العبودية واستبداد الآلة التقنية المنفلتة من كل رقابة وتحكم. وعلى عكس هذا التصور، يرى ليك فري أن الحاجيات المصطنعة هي التي خلقت تاريخياً فرصَ العمل، وبالتالي فإن كل مرحلة من مراحل التقدم العلمي تبدع مسالكَ وآفاقاً جديدةً للشغل بقدر ما تقلص من نماذج أخرى لم تعد تتلاءم مع سوق العمل الجديدة. أما السؤال القيمي، فقد واكب نشأة العلوم التجريبية وتطبيقاتها التقنية منذ البداية، بما عكسته الكتابات الفلسفية والأخلاقية منذ مطلع العصور الحديثة.
ولقد شهد هذا التوجهُ دَفعةً قويةً مع تنامي الاقتصاد الصناعي الاستهلاكي والتقنيات العسكرية ذات الدمار الشامل، بما تجلى بوضوح في كتابات الجيل الأول من فلاسفة مدرسة فرانكفورت ما بعد الحربين والفلاسفة والكتاب الوجوديين بعد الحرب العالمية الثانية.
إلا أن السؤال القيمي عرف بالفعل تحولاً كبيراً مع نشأة التقنيات الاتصالية التي أن فسحت المجال لما أطلق عليه البعض «العولمة السعيدة»، والتي ولَّدت تحدياتٍ غير مسبوقة تزايدت مع وتيرة الذكاء الاصطناعي الراهن. ما أطلق عليه ليك فري «الحالة ما بعد الإنسانية» بدأ عملياً في ظواهر ستغير قريباً طبيعة البشر مثل: السيارة ذاتية القيادة، واستبدال الخلايا المتهالكة، والنسخ الإلكتروني للدماغ الإلكتروني.. والعقبة هنا ليست تقنية مادية بل أخلاقية قيمية، كما يقر ويتخوف أهل الاختصاص أنفسهم.
وكانت الفلسفة قد نشأت مع سقراط لمواجهة تحد مماثل هو الإمكانات الواسعة التي توفرها الثورة العلمية الأولى المتمحورة على الرياضيات، من حيث بناء الخطاب وبثه في الميدان العمومي المفتوح الذي كان أوانها هو «أغورا» المدينة. لقد اعتبر سقراط أن الحاجة إلى الفلسفة تتمثل في تصفية سيلان الكلام المفتوح والمنشور وفق معايير برهانية أخلاقية تحمي الحقيقةَ والعدالة من تلاعب الخطباء والبلغاء (السوفسطائيون).
ومع قيام الثورة العلمية الثانية المتمحورة حول الفيزياء، تجدد التحدي نفسُه، بانبثاق مشروع السيطرة على الطبيعة وامتلاكها الذي اعتبره ديكارت مهمةَ العلم التجريبي، وهو وفق عبارة ميشال سر «إعلان حرب» متكامل سيفضي لاحقاً إلى مسار الهيمنة المزدوجة على الطبيعة والإنسان الذي شغل كثيراً الفلاسفة المعاصرين.
ولم يكن مشروع إيمانويل كانط الساعي إلى إنقاذ الميتافيزيقا والأخلاق من تجاوزات التصور المجرد للعقل (ميدان المعرفة) سوى محاولة أخرى للإنقاذ الفلسفي للحقيقة والعدالة. ما نخلص إليه هو أن موجةَ الذكاء الاصطناعي، والتي هي الطورُ الجديدُ من الثورة التقنية الراهنة، تستوقف الفلسفةَ مجدداً في مهمتها القيمية والعقلانية التي لا سبيل للاستغناء عنها، وهي اليوم مطلوبةٌ أكثر من أي وقت مضى.
الدكتور: السيد ولد أباه / مفكر موريتاني