يلاحظ المفكر والمؤرخ المغربي البارز عبد الله العروي أن النزعة الوطنية المغربية الحديثة كانت نتاج الحركة التحديثية الإصلاحية للمخزن أي الدولة التقليدية، وقد عبر عنها العلماء وكرسها دعاة الاستقلال وبناة الدولة المعاصرة من السياسيين ورجال الحركة الوطنية.
المغرب في هذه الحالة أقرب إلى التجربة اليابانية التي تولى فيها النظام الإمبراطوري العريق عملية الإصلاح، والتحديث وبناء الهوية الوطنية للدولة.
وكما هو معروف، تقوم سردية النزعة الوطنية المغربية على الجذور الإدريسية البعيدة التي كرست انفصال الدولة عن الخلافة العباسية، قبل أن تظهر الدول المجاهدة (المرابطون، والموحدون، وغيرها) التي سلكت المسلك الاستقلالي الذي وصل ذروته مع إعلان الخلافة لدى السعديين ثم العلويين الحاكمين منذ أكثر من ثلاثة قرون.
هل كانت الدولة المغربية التقليدية معبرة عن هوية وطنية بالمفهوم الحديث؟
يميل جل المؤرخين إلى أن هذه الدولة كانت من حيث امتداداتها ونظمها السيادية وطرق تدبيرها للحكم أقرب إلى الدولة السلطانية الوسيطة، وقد قامت شرعيتها على حماية الثغور ومواجهة الخطر الصليبي ونشر الدين وإقامته، وإن كانت تميزت إلى حد بعيد بالاستمرارية التاريخية والجغرافية.
وعادة ما تُربط الهوية الحديثة للدولة بهزيمة إيسلي سنة 1844، أي هزيمة جيش السلطان عبد الرحمن بن هشام أمام القوات الفرنسية في سياق دعم العرش المغربي لحركة المقاومة الجزائرية.
لقد بينت هذه الهزيمة الحاجة الكبرى إلى الإصلاح الشامل والتحديث المؤسسي، بما بدأ عمليًّا في عهد السلطانين المولى محمد بن عبد الرحمن والمولى الحسن الأول.
ولقد تمثلت الخطوات الإصلاحية التي اعتمدها العرش في إعادة بناء مؤسسات الدولة البيروقراطية، والإدارية، والمالية والعسكرية، مع إرسال بعثات تعليمية واستطلاعية إلى أوروبا والانفتاح على تجارب التحديث والتنمية في الغرب الصاعد.
ومع هزيمة تطوان سنة 1860 أمام الجيوش الإسبانية وانفصال مدينة طنجة عن السيادة المغربية، دخلت البلاد منعرجًا حاسمًا، تمثل في انطلاق حركية تنويرية وحداثية في المدينة الشمالية الخاضعة لإدارة دولية مشتركة، وأصبحت نواة الحركة الوطنية الحديثة التي ستقود النضال ضد الاستعمار لاحقًا في المغرب.
ولقد برزت مؤشرات هذه الحركة الإصلاحية في الثورة الدستورية التي عرفت محليًّا بالبيعة المشروطة، وفي انبثاق ما سمي بالحركة السلفية التجديدية.
أما البيعة المشروطة، فهي وثيقة المبايعة التي وقعها أعيان علماء فاس للسلطان عبد الحفيظ سنة 1908 إثر عزل السلطان عبد العزيز، ومن أهم بنودها بالإضافة إلى مواصلة الجهاد ضد الأوروبيين، استشارة الأمة في كل القضايا الجوهرية والملفات الأساسية.
وأما الحركة السلفية، فقد اعتمدت الخطاب الإصلاحي المألوف لدى رموز الاجتهاد والتجديد في المشرق كالإمامين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، واتجهت إلى أهداف محاربة الخرافة، والجمود ودفع حركية النهوض والتمدن، ومن شخصياتها المؤثرة أبو شعيب الدكالي والمختار السوسي ومحمد بن العربي العلوي.
ومع أن المغرب عرف نظام الحماية في 1912 وخضع للسيطرة الاستعمارية الفرنسية، إلا أن الحركة الوطنية التي تركزت حول العرش والعلماء ظلت قوية فاعلة، وعرفت دفعة قوية بعدما عرف بالظهير البربري سنة 1930 (القانون الفرنسي الفاصل بين المناطق البربرية والمدن من حيث التشريع ونظام القضاء).
وقد بدأت عمليًّا الحركة الاستقلالية في الظهور منذ سنة 1934، وأصبحت حركة اجتماعية وسياسية قوية منذ 1944 تاريخ إنشاء “حزب الاستقلال”، ثم عرفت طفرة حاسمة مع ثورة الملك والشعب سنة 1953 التي كرست السلطان المعزول محمد الخامس زعيمًا ورمزًا إجماعيًّا للحركة الوطنية المغربية التي قادت إلى استقلال البلاد سنة 1956.
وهكذا يتبين أن النزعة الوطنية المغربية هي نتاج مسار مزدوج: تاريخي يرجع إلى بدايات الاحتكاك بمشاريع الاستعمار الأوروبي التي كان من بينها مشروع أول مقيم فرنسي في المغرب الجنرال ليوطي الذي انتبه إلى عناصر الهوية الوطنية المغربية ودافع عنها، ورمزي نتج عن عملية إعادة تأويل وتملك الحقب التاريخية الطويلة التي اتسمت باستقلالية المغرب وانفصاله عن الإمبراطوريات المشرقية من الدولة العباسية إلى الخلافة العثمانية.
يبين عبد الله العروي أن الهوية الوطنية المغربية الخصوصية هي نتاج الدولة التي تتسم بازدواجية الشرعية من حيث هي في آن واحد دولة بيروقراطية حديثة وإمارة للمؤمنين، ولذا فإنها لبست بحاجة إلى المقومات التعاقدية والنفعية للدولة الحديثة نتيجة لقوة مشروعيتها الدينية، كما أن قدراتها الاندماجية والتوحيدية مرتبطة بالمخزن الذي هو القوة العميقة الضامنة للهوية الوطنية.
ما ميز المغرب منذ استقلاله سنة 1956 هو أن عملية التحديث السياسي كانت دومًا نتيجة توافق وطني جامع بين الملكية الحاكمة والقوى الحزبية والمدنية، وهو العقد الذي انبثق عن قيام الحركة الوطنية في الثلاثينيات ووصولها أوجها مع ثورة الملك والشعب سنة 1953.
ورغم سنوات الصراع الحاد بين الملكية والقوى السياسية المعارضة، إلا أن مسار الإصلاحات السياسية والدستورية ضمن المرجعية الليبرالية التعددية، استمر منذ قيام المجلس الوطني الاستشاري سنة 1956 وصدور قانون الحريات العامة 1958 إلى دستور 1996 الذي فسح المجال لتجربة “التناوب التوافقي” 1998 (إسناد رئاسة الحكومة لزعيم المعارضة الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي)، إلى دستور 2011 الذي عزز الطبيعة الديمقراطية للنظام السياسي المغربي.
ما يتعين التنبيه إليه هو ما أشار إليه المفكر الراحل محمد عابد الجابري من كون النزعة الوطنية المغربية الحديثة استبطنت الإسلام روحًا ثقافيًّا بمضمونه العروبي، باعتبار أن الإسلام والعروبة مقولتان مترادفتان في الوعي السياسي المغربي، نتيجة لغياب أي مكونات غير إسلامية في النسيج الوطني للمجتمع (باستثناء الأقلية اليهودية الضئيلة ذات الوضع الخاص).
إن هذه الظاهرة هي التي تفسر من جهة نجاح المؤسسة الملكية في احتضان الشرعية الدينية من خلال نظام إمارة المؤمنين، ومن جهة أخرى امتصاص الحركات الليبرالية واليسارية للنزوع العروبي بما يفسر ضعف وهامشية الأيديولوجيات الحزبية القومية في المغرب.
الدكتور: السيد ولد أباه / مفكر موريتاني