spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

الدولة الوطنية والقبيلة: الحالة الليبية

ما تزال الأزمة الداخلية الليبية مشتعلة منذ سنة 2012، البلاد مفككة وشبح الحرب الأهلية يهدد السلم المدني الهش، والمسار الدستوري والانتخابي معطل رغم القرارات الدولية والاتفاقيات الموقعة من الأطراف السياسية المتنافسة.

الدراسات الاجتماعية والسياسية الكثيرة التي تعرضت للوضع الليبي ركزت على دور العامل القبلي في تقويض محاولات بناء الدولة الوطنية، بما يفسر عجز البلاد عن امتصاص صدمة التحول الثوري في سنة 2011. الواقع أن نظام العقيد معمر القذافي الذي امتد من عام 1969 إلى عام 2011 لم يسع لتوطيد الدولة وبناء الهوية الوطنية الجامعة، بل كانت “الجماهيرية” في ما وراء غرابتها المؤسسية وأرضيتها الأيديولوجية متناسقة مع حالة اللادولة التي ميزت المجتمع الليبي في مساره التاريخي الطويل.

لم تكن الدولة القرمانلية (1711-1835) التابعة للسلطنة العثمانية (وإن كانت مستقلة عنها عمليًّا) أكثر من ولاية عسكرية وإدارية لا يتجاوز نفوذها إقليم طرابلس، وبعد سقوط هذه الدولة وعودة السيطرة العثمانية المباشرة على البلاد ظل الانفصال قائمًا بين الأقاليم الثلاث (طرابلس، وبرقة وفزان).

وعلى عكس التجارب الاستعمارية في تونس والمغرب، لم يسع الاحتلال الإيطالي (1911- 1943) إلى بناء دولة وطنية ليبية بهوية اجتماعية منسجمة، بل ظل الحضور الاستعماري محصورًا في المدن الكبرى المنفصلة عن بعضها البعض، في الوقت الذي قادت القبائل والطرق الصوفية حركية المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الأجنبي. ولقد نجم عن الاحتلال الإيطالي تدمير النسيج الأهلي الليبي وتقويض نظام الإنتاج الرعوي في الشرق والنظام الزراعي في الغرب، بما تسبب في أزمة مجتمعية عميقة تركت أثرها المكين في البلاد.

ومع أن الأقاليم الليبية ظلت بعد الحرب العالمية الثانية إلى موعد إعلان الدولة المستقلة بترتيب من هيئة الأمم المتحدة عام 1951 موزعة بين السيطرة البريطانية والفرنسية (في إقليم فزان)، إلا أن الدولة السنوسية التي فرضت نفسها تركزت في إقليم برقة مستفيدة من الشبكة التجارية الدينية الواسعة التي أمنت لها السيطرة على مسالك القوافل الصحراوية المتجهة إلى الساحل الإفريقي وإفريقيا الوسطى .

لم تكن المملكة السنوسية التي حكمت ليبيا من إعلان الدولة عام 1951 إلى انقلاب القذافي سنة 1969 دولة وطنية مدنية بالمفهوم الحديث، بل اعتمدت كليًّا على التركيبة القبلية الأهلية في إدارة السكان وتأمين خضوعهم للكيان الوطني عبر استراتيجية معقدة جمعت بين الهياكل البيروقراطية الضعيفة وتفويض السلطة المحلية للزعامات القبلية المتنفذة .

ومع اكتشاف البترول بداية من سنة 1959 تغيرت المعادلة السياسية، وفرض الوضع الاقتصادي الجديد نمطًا خاصًا من الولاء للدولة الجديدة التي تدير الريع النفطي المركز في الأقاليم الوسطى بين الشرق والغرب، في حوض سرت (أي ما بين شرق طرابلس وشمال غرب برقة).

وفي حين كان العامل النفطي دعامة قوية للبناء الوطني في الخليج العربي وبعض البلدان المشرقية والمغربية الأخرى، فإنه في ليبيا لم يؤد هذا الدور نتيجة للتركيبة القبلية التي حافظ “العهد الجماهيري” على توظيفها في مقاربة الزبونية السياسية، ولو من خلال إعادة إنتاجها في الخطاب الثوري ونظام التمثيل في اللجان والمؤتمرات المحلية.

وإذا كانت الأنظمة السياسية العربية اعتمدت عادة على ركيزتي الجيش والإدارة البيروقراطية في مواجهة المجتمع الأهلي وقواه القبلية والعشائرية، فإن جماهيرية القذافي تجنبت اللجوء إلى هاتين الآليتين، بل اتجهت إلى إضعاف وتفويض المؤسسة العسكرية التي كانت في البداية مركز السلطة وفككت المنظومة الإدارية البيروقراطية البدائية باسم النظام القاعدي الشعبي.

لم يخف على أحد أن “الدولة الثورية” القذافية اعتمدت في تجربتها الطويلة على التحالفات القبلية المحلية وبصفة خاصة حلف القبائل الغربية الثلاث الكبرى ورفلة والقذاذفة والمقارحة، ووظفت الريع النفطي في تأمين ولاء المجموعات العشائرية في الجنوب والشرق .

كما لا يجهل أحد دور قبائل بنغازي وطبرق في الثورة على القذافي وما لقيت من دعم حاسم من قبائل الزنتان ومصراتة بما أدى إلى الانهيار السريع للنظام الجماهيري.

إن هذه المعادلة القبلية هي اليوم السبب الحقيقي للأزمة الحادة وانقسام البلد إلى أقاليم منفصلة عن بعضها البعض، وإلى حكومتين متصارعتين، ومجموعات مسلحة متصادمة ومدن شبه مستقلة لها علاقاتها الخارجية السيادية.

ما نخلص إليه هو أن ليبيا لم تعرف في تاريخها الحديث محاولة جدية لبناء دولة وطنية مركزية مستقرة، على غرار التجربة التونسية التي انطلقت مع الدولة الحسينية، وتوطدت في المرحلة الاستعمارية ودعمتها البورقيبية، أو على غرار المغرب الذي عرف منذ الإصلاحات التنظيمية في عهد السلطان الحسن الأول (1873-1894) تجربة البناء الوطني الحديث الذي تعزز تحت الحماية الفرنسية ومع الدولة المستقلة الجديدة .

لا يتعلق الأمر هنا بعوائق جوهرية في تركيبة المجتمع العشائري الرافض لمنطق الدولة بحسب الأدبيات الاثنوغرافية القديمة (stateless societies)، فالتركيبة العصبية ليست في ذاتها نقيض الدولة، بل إن الأدبيات الخلدونية تبين بوضوح أن تشكل الحكم السياسي المركزي في التاريخ العربي الإسلامي يتم عادة على أساس اللحمة العصبية والحمية القبلية، إلا أن المشكل الليبي يرجع في اعتقادنا إلى غياب المشروع السياسي الوطني الجامع الذي يستثمر عناصر ومقومات الهوية المشتركة في تكريس حالة جماعية مدنية لها منظومة بيروقراطية واقتصادية وقانونية صلبة، بحسب المسارات التي أثبتت نجاحها في مجتمعات قبلية عديدة في العالم العربي وإفريقيا .

كان العقيد القذافي يتباهى بكون بلاده ليست دولة بل مجتمعًا يحكم نفسه، ولا شك في أن كلامه صحيح، ليس بمعنى قيام نظام الديمقراطية الجماهيرية المباشرة التي بشر بها ودعا لها، وإنما بمعنى غياب تركيبة سياسية مركزية تستوعب وتتجاوز المجتمع القبلي الأهلي في تناقضاته وصراعاته. ومن هنا فإن حل المعضلة الداخلية الليبية لن يكون إلا بقيام النخبة السياسية البيروقراطية التي تسعى إلى بناء هذا المشروع الوطني البديل وإنجازه في الواقع الملموس.

الدكتور السيد ولد أباه / مفكر موريتاني

spot_img