تصادف السنة الجارية الذكرى الخمسين لرحيل “عميد الأدب العربي” طه حسين، المفكر والأديب الذي لا يضاهى تأثيره في الساحة الثقافية العربية المعاصرة.
ليس هذا المقال دراسة حوله، ولا تذكيرًا بجهوده الفكرية والعلمية الرائدة، لكنه ينبه إلى جوانب ثلاثة أساسية من مشروع طه حسين، من منظور اهتمامات الفكر العربي الحاضر.
أول هذه الجوانب يتعلق بتاريخ الأفكار الذي شغل به طه حسين مبكرًا من خلال دراساته الرائدة في الشعر الجاهلي والآداب العربية الوسيطة. لا أحد بطبيعة الحال يجهل الضجة الكبرى التي خلفها كتابه “في الشعر الجاهلي” الذي صدر عام 1926. في هذا الكتاب الذي طبق فيه منهج الشك الديكارتي، اعتبر أن الجزء الأكبر من مدونة الشعر الجاهلي منحولٌ مختلق في عصور الإسلام الأولى، بل إن جلّ الشعراء الذين ينسب لهم هذا الشعر كائنات أسطورية ليس عليها دليل تاريخي موثوق. ولقد ذهب نهج الشك لدى طه حسين إلى حد التعرض لوجود بعض الأنبياء المذكورين في القرآن الكريم مثل إبراهيم وإسماعيل، مع التشكيك في القصص القرآني الذي ورد فيه ذكرهم.
ومع أن هذه الآراء كانت صادمة واستفزازية، إلا أن الجدل لم يستمر طويلًا وإن وصل إلى المحاكم وشارك فيه الأزهريون ورجال الدين. وبطبيعة الأمر، لم تصمد أطروحة طه حسين حول الشعر الجاهلي في الأوساط النقدية والتاريخية، وكان لكتاب مؤرخ الآداب الأردني ناصر الدين الأسد “مصادر الشعر الجاهلي” دورٌ أساسي في إخماد هذا الجدل القديم المتجدد.
ما يهمنا في نهج طه حسين أنه أسس تقليد تاريخ الأفكار في الثقافة العربية المعاصرة، وإن كان في البداية قد تأثر بأساليب المستشرقين في النقد الفيلولوجي المعتمد على تطور اللغة، وحركية النصوص وتداخلها. ولقد تجاوز تاريخ الأفكار هذه المقاربة في اتجاه التحليل النسقي البنيوي والقراءات التفكيكية، لكن طه حسين قد بلور بلا ريب هذا المسلك التأريخي للأفكار.
أما الجانب الثاني في تركة طه حسين، فهو تدشين الدراسات الخلدونية في الفكر العربي المعاصر، منذ عمله الجامعي حول “فلسفة ابن خلدون الاجتماعية” الذي يعود لسنة 1917 وقد ترجم للعربية عام 1922. تعرض هذا العمل لنقد كثير، وقيل إنه أساء إلى صاحب المقدمة الذي نفى عنه كل ما وسم به من عبقرية وأسبقية على عصره، وهاجم بشراسة تجربته السياسية الشخصية، وإن كان أقرّ له بكونه أسس تقليد الكتابة السياسية المتجردة من المباحث الأخلاقية والكلامية. لا تهمنا هذه الأحكام في ذاتها، لكن مما لا شك فيه أن دراسته العلمية حول ابن خلدون كانت بداية اهتمام غير مسبوق بهذا العلم التراثي الهام: قرأنا عن ابن خلدون الإصلاحي مؤسس علم الاجتماع وفلسفة التاريخ لدى ساطع الحصري، وابن خلدون واضع نظرية الدولة العربية الوسيطة في جدلية الملك والعصبية والعقيدة لدى محمد عابد الجابري، وابن خلدون واضع منهجية الخطاب التاريخي لدى علي أومليل، وابن خلدون صاحب التفكير الواقعي لدى ناصيف نصار.. إلخ. لم يبق أي مفكر بارز في الساحة الثقافية العربية لم يهتم بابن خلدون أو يكتب حوله، وفضل السبق في ذلك كله راجع دون شك إلى طه حسين.
أما الجانب الثالث، فيتعلق بدوره التأسيسي في بلورة مشروع التحديث الليبرالي في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر” الصادر سنة 1938. لم يكن طه حسين أول مفكر حداثي تنويري في الفكر العربي ولا في الساحة المصرية التي عرفت أقلامًا بارزة دعت إلى القيم الليبرالية من أمثال فرح أنطون، وأحمد لطفي السيد وسلامة موسى. لكنه كان أول من صاغ مشروعًا ثقافيًّا مجتمعيًّا متكاملًا يدافع فيه عن الهوية الأوروبية لمصر، وعن خيار التغريب الواعي أفقًا للتحديث. ومهما كان الرأي في هذا المشروع الذي لم ينل تجاوبًا حقيقيًّا في الشارع المصري، إلا أن طه حسين تجاوز شذرات الكتابة الصحافية، والدعاية السياسية المباشرة في بلورة رؤية فكرية ومجتمعية منسجمة وجريئة، وحاول تطبيقها أيام توليه وزارة المعارف في الحكومة الوفدية. قيل الكثير عن موقف طه حسين المهادن للعهد الناصري بل الداعم له خصوصًا في قراراته الثورية الاجتماعية، كما قيل الكثير عن إسلاميات طه حسين التي كانت آخر إنتاجه الفكري، بيد أنه مما لا شك فيه أن النفس الإصلاحي التحديثي الليبرالي ظل حيًّا وملموسًا في كل كتاباته الفكرية والأدبية.
يبقى السؤال المطروح هو ماذا بقي من طه حسين؟
لم يعد أحد منبهرًا بكتبه في تاريخ الأدب العربي منذ أعماله المبكرة حول الشعر الجاهلي والمعرّي والمتنبي، كما أن إسلامياته أصبح ينظر إليها كمجرد كتابات أدبية انطباعية، أما مشروعه الثقافي في تحديث مصر وربطها بالغرب وفصلها عن الشرق، فلا حاجة للحديث عنه اليوم.
يتساءل الكثير لماذا سلك طه حسين نهج الشك الديكارتي في كتاباته النقدية الأولى، رغم مرور ثلاثة قرون على أعمال فيلسوف الحداثة الفرنسي، في حين أن طه حسين كان شديد الاطلاع على المناهج الجديدة في الفلسفة والعلوم الإنسانية، والدليل على ذلك هو تتلمذه على مؤسس علم الاجتماع الحديث دوركايم الذي كان المشرف الأول على أطروحته حول ابن خلدون.
ولا شك في أن الجواب له علاقة بطبيعة المشروع التحديثي لطه حسين الذي كان يقتضي إحكام الشك والنقد في المقاربات السائدة في الثقافة العربية، بدلًا من الاكتفاء بالمشروع الإصلاحي والتوفيقي لأستاذه الكبير الإمام محمد عبده وتلميذه أحمد لطفي السيد.
الديكارتية بالنسبة لطه حسين ترادف العقلانية والمنهج العلمي الموضوعي، ومن هنا سعيه الحثيث لغرسها في الفكر العربي، معتبرًا أن القيم الليبرالية من حرية فردية، وعدالة تشاركية، ومشاركة سياسية ومدنية هي ثمرة العقلانية التنويرية في مقوماتها الفلسفية العميقة.
إن هذا الإرث الديكارتي هو ما بقي من مشروع طه حسين بعد خمسين سنة على رحيله.
الدكتور السيد ولد أباه/ مفكر موريتاني