في الثالث من أغسطس أعلن عمال شركة موف موريتل الدخول في إضراب عن العمل لمدة شهر تتويجا لسلسلة من الاحتجاجات والإضرابات المتتالية على فترات متقطعة آخرها إضراب لمدة عشرة أيام في منتصف يوليو الماضي. بلغت نسبة الإضراب أكثر من 95 بالمئة من مجموع عمال الشركة، المطالبين بتحسين ظروفهم وعلاواتهم، وتقليص هيمنة شركة اتصالات المغرب وتمكين الكادر الوطني الموريتاني في المؤسسة. وقد بدأت بالفعل آثاره تضرب بقوة في أزمة رصيد الهاتف مسبق الدفع، وصيانة شبكة الانترنت وتسيير الاشتراكات، بينما تراجعت نسبة المبيعات إلى نحو 53% حتى منتصف أغسطس.
إضراب الشهر الذي انقضى ثلثاه للتو كان أحدث مؤشر على وضع موف موريتل، والظاهر أنه ليس سوى قمة جبل الجليد.
تتمتع الدولة الموريتانية بنسبة 46% بالمائة من ملكية الشركة، وهي أكبر شريك مالك فيها، في حين لدى اتصالات المغرب نسبة 40% وتتوزع النسب الباقية بين الخواص والعمال. ومن غريب المفارقة أن الدولة الموريتانية تخلت لإدارة الشركة الممولة من مال الشعب لفائدة اتصالات المغرب وزادت على ذلك بإعطاء أغلبية أربعة أصوات للأعضاء المغاربة في مجلس الإدارة مقابل ثلاثة أصوات موريتانية من بينها صوت الرئيس الذي لا يعتبر مرجحا.
ورغم أن المعطيات الواقعية لهذه الشركة التي أسست موريتانية، ثم أدخل فيها الشركاء، توحي ببداهة السيطرة الموريتانية عليها، إلا أنها ومنذ سنوات أخذت مسارا تابعا بالكلية لشركة اتصالات المغرب التي تعين مديريها، والتي ضيقت على الكوادر الموريتانية فيها بشكل متصاعد، فبالإضافة إلى المدير العام والمدير المالي ( يوجد 6 مغاربة مناصبهم الرسمية مكلفون بمساعدة رؤساء المصالح الموريتانيين، لكنهم يمارسون كافة الصلاحيات بالتعاطي مع الإدارة العامة، دون الرجوع إلى المسؤول الموريتاني المباشر، إلا في التوقيع، ومن رفض من المديرين الموريتانيين هذا التكليف الصوري، يتم عزله من منصبه)، كما تعتمد الشركة سياسات خلق المنتج واستراتيجيات العمل التي تستقدم جاهزة من المغرب دون أن يدخل عليها أي تعديل، بما في ذلك التقارير الموسمية والسنوية التي يفترض أن الدولة الموريتانية من يجب أن يشرف عليها ويجري التدقيق على نتائجها وعلى طبيعة الاستراتيجيات المستقبلية لأكبر مشغل اتصالات وطني، كل ذلك يستقدم من خارج البلاد في الوقت الذي ينجزه مهندسون ومخططون موريتانيون ويبقى حبيس أدراج الإدارة الأجنبية.
حسب ما توصلت به مدار من معلومات من داخل الشركة فإن سياسات التعامل مع الكادر الوطني أخذت مسارا ممنهجا من قبل الإدارة المغربية خاصة على مدى السنوات الماضية، وزادت حدة هذا المنحى في آخر عامين ليصبح أكثر تصادما مع العمال وتملصا من أي وعود سابقة والتزامات بتسوية وضعياتهم، أما عندما يكون الحديث عن منهجية إدارة الشركة وضرورة تمكين الكادر الموريتاني وتخفيف السيطرة المغربية فإن الإدارة لا تترك أي فرصة للنقاش.
خاض مناديب العمال منذ عقد من الزمن وحتى الآن جولات طويلة عبر نقابتهم مع إدارة الشركة، وكانت في أغلب الأحيان توقع اتفاقا معهم ثم يفضي إلى إخلال جزئي أو إخلال كلي بمقتضاه، وكان آخر اتفاق موقع ومصادق عليه لدى مفتشية الشغل عام 2019، وأخلت به الإدارة وتملصت من التزامها للعمال، ما أوصلهم في الأخير إلى مرحلة “آخر الدواء الكي”.
ورغم الإضراب فقد أغلقت الإدارة أبوابها في وجه أي حوار جدي.
استحوذت شركة موريتل على البنية التحتية الأساسية في موريتانيا بشكل كامل، إذ ورثت كلالة شبكة التوصيلات الأرضية في عموم البلاد، عن هيئة البريد والمواصلات التي كانت تديرها، وانطلقت بادئ الأمر بإمكانات الدولة الموريتانية بما في ذلك مقرها الاجتماعي الرئيسي الآن، وبطبيعة الحال أدت هذه الوراثة إلى التحكم على طريقة المونوبل في خدمات التزويد الأرضي بالانترنت، وخدمات الهاتف الأرضي الثابت على مدى عقود، ومع توسع شبكة المشتركين استفادت من تسهيلات كثيرة تارة تحت مسمى الحاجة الحيوية لتطوير البنية التحتية الرقمية وتارات باسم أن الدولة هي الشريك الأكبر، ولعل هذه هي الحالة الوحيدة التي ترفع فيها الإدارة المغربية العلم الموريتاني.
إضافة لذلك أغمضت السلطات الرقابية العين عن استخدام مصادر اتصالات غير مصرح بها، وأحيانا أقرت استخدامها اضطرارا مثل الكابل البري عالي الألياف البصرية الذي يفترض أنه كان في البداية عابرا نحو مالي وليس مزودا، وقد استخدمته الشركة حين انقطاع الكابل البحري مرتين متتاليتين.
تساهم موف موريتل بنسبة معتبرة في واردات الخزينة العامة للدولة سنويا، ورغم أن الرقم المصرح به غير معلن على وجه الدقة إلا أنه عندما قررت الحكومة الموريتانية في عهد الوزير الأول مولاي ولد محمد لغظف فرض نسبة نحو 2% من رقم الأعمال على شركات الاتصال للمساهمة في تحسين البنية التحتية الرقمية ومد الألياف البصرية وتعزيز دور شركة موريتانيا للاتصالات الدولية (شركة التزويد الوطني للشركات الثلاث)، بلغت نسبة موريتل نحو مليار ونصف المليار أوقية قديمة آنئذ، فضلا عن دفع أكثر من مليار أوقية بشكل شبه سنوي كغرامات للسلطة المنظمة، وقد بات من عرف موريتل وشركات الاتصال دفع الغرامة عوض الاستثمار في البنية التحتية للقناعة بأن الغرامة ستفرض لا محالة بسبب أو بدونه، وكلفة الغرامة تكاد تساوي كلفة تحسين الشبكة.
لذا، تحولت موريتل إلى خزان ضريبي، وفرع تابع لاتصالات المغرب يتحكم في أموال الشعب الموريتاني دون أي حسيب، ويدير أكبر مشغل وطني بطريقة لا تتناسب مع الأولويات الوطنية.
تبلغ نسبة سيطرة موريتل في سوق الاتصالات نحو الثلثين بمعدل يقترب من 70%، ولا تصل كتلة الرواتب والتشغيل البشري 4% بالمئة من رقم أعمالها السنوي، في حين يتقاضى أكثر من نصف عمالها رواتب أقل من نظرائهم في شركتي الاتصال الأخريين الموريتانية التونسية ماتل، والموريتانية السودانية شنقيتل.
سلطة غائبة وشريك مستقيل؟
اتخذت الدولة الموريتانية في عهد الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز قرارا بحصر المناصب الحساسة المتعلقة بالاتصالات وأمن المعلومات في الشركة على الموريتانيين، وهو القرار الذي لا يزال ساريا لغاية اليوم، لكنه قرار يتيم وسط حالة من الصمت غير المفهوم تقابل بها الدولة كشريك مساهم بأكبر نسبة في رأس المال ما يجري في الشركة تحت ناظريها، وهي أيضا الدولة ذات سلطة الرقابة والوصاية (سلطة التنظيم) التي انصرف وقتها وجهدها إلى تحصيل الإتاوات والغرامات من أعطال الشبكة أكثر من أي جهد مهما كان نحو تطوير الشبكة وتحسين البنية التحتية الرقمية. أما وزارة التحول الرقمي والابتكار وعصرنة الإدارة فخديجة لم تبلغ سن الرضاع بعد، اكتفت بحث الأطراف على الحوار، عكس مفتشية الشغل التي سعت في سبيل الحوار أكثر وكان مفتش الشغل في نواكشوط الغربية بنفسه من يكتب نص مسودة اتفاق يمليها شفاهة أمامه مناديب العمال وإدارة الشركة بعد تنازلات من الطرفين، وحين التوقيع رفضت إدارة الشركة التوقيع بضغط من اتصالات المغرب دون أن يتخذ بحقها أي إجراء.
في اليد الأخرى تقف الدولة، الشريك الأكبر متفرجة تنتظر أن تقرر إدارة موف موريتل ما يجب فعله في شركة موريتانية ، ومصير مواطنين موريتانيين قرنوا مطالبهم الاجتماعية المستحقة بمطالب يفترض أن تكون الدولة من ينافح عنها؛ فمن يجب أن يتحدث عن الدولة ومن يمثلها؟ وإذا لم يكن الآن فمتى؟ وهل سلمت الدولة حصتها طواعية لماروك تلكوم؟
سلم التصعيد
بدأ مناديب العمال إجراءات التصعيد بعد تراجع الإدارة عن الاتفاق الذي كان من المفترض أن يوقع معهم في إبريل من العام الجاري، وتراجعت عنه الإدارة المغربية فجاءة وبشكل كامل بعد أن كانت قد تعهدت به من قبل ما اضطر العمال إلى الدخول في سلسلة من الإجراءات التصعيدية بالتدرج حتى لا يقع الضرر على الشركة لاستحضارهم وفق قولهم أنها شركة وطنية ومطالبهم فيها مطالب واقعية واستحقاقية، فبدأ إضرابهم طيلة شهر مايو بواقع ثلاث ساعات في يومين من كل أسبوع، ثم تطورت إجراءات العمال نحو إضراب مدته خمسة أيام في شهر يونيو، أعقبتها عشرة أيام من الإضراب في شهر يوليو ثم الإضراب الحالي الذي بدأ بشهر أغسطس، قبل أن يقرر العمال تمديده لغاية الثلاثين من سبتمبر، وقد قابلت الشركة حق الإضراب الذي يكفله القانون باقتطاعات الراتب عن العمال المضربين وحينا بمحاولات إغراء، وتخويف بعض العمال للتراجع بشكل فردي، بيد أن كل محاولات الإدارة باءت بالفشل حتى الآن.
تبدو آفاق إضراب العمال الحالي غير معلومة النهاية، فلا يبدو أن الدولة تود تحريك ساكن بشكل جدي في اتجاه تفعيل نسبتها، ولا يظهر أن لدى أي من الجهات الوصية من جهة الشغل ومن جهة سلطة التنظيم أو الوزارة الخديجة أكثر من مجرد الحث على الحوار وكأن كل هذه القطاعات وسيط بين طرفي أزمة في اليمن، وحتى إن كانا طرفا أزمن في اليمن فتجربتنا في حل أزمات ذلك البلد العربي لا تدعو للتفاؤل.