spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

نقدية المشروع القومي والفكرة الليبرالية

عندما نشر المؤرخ والمفكر التونسي هشام جعيط كتابه “الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي” عام 1974، كانت مشاريع الأيديولوجيا القومية العروبية في منعطف حاسم، بعد نهاية التجربة الناصرية وانفجار التناقضات بين جناحي حزب البعث في العراق وسوريا. لقد شكل هذا الكتاب بعد كتاب عبد الله العروي “الأيديولوجيا العربية المعاصرة” أهم نقد فكري للتجربة العروبية في بنائها النظري وسياقاتها التاريخية العملية.

على عكس العروي، تبنى جعيط بوضوح المشروع القومي العربي ودافع عنه، بل بدا في كتابه المذكور قريبًا من الفكر البعثي ونوه برائده ميشل عفلق في توجهاته الفلسفية ورصانته النظرية.
لكن جعيط رأى أن الخطأ الأكبر الذي عانى منه الفكر القومي العربي هو إيمانه الطوباوي المسبق بوجود أمة عربية متجسدة في الواقع التاريخي، في حين أن الأمة لم تتشكل بعد في المنظور الفعلي الملموس، بل لا تزال طموحًا وأفقًا مفتوحًا للممارسة والإنجاز.ما غاب عن دعاة القومية العربية حسب جعيط هو الفرق الجوهري بين مشروع توحيد البلدان والدول المنتمية للمجال العربي وهي فكرة عثمانية نشأت لدى الدولة العلوية في مصر (نسبة لمحمد علي باشا) وتركزت لدى نخب بلاد الهلال الخصيب في أقاليم الشام على الأخص، والمشروع القومي العربي الذي هو توجه إيديولوجي سياسي.
لقد ذهب جعيط إلى أن بناء الأمة العربية مشروع تاريخي يحتاج إلى دولة مركزية قوية تضطلع به ولا يمكن أن يتم من خلال البناء الأيديولوجي المحض أي افتراض وحدة ثقافية واجتماعية تنجم عنها حالة سياسية ميكانيكية.
كنت قد ناقشت هذه الأطروحة مع المفكر الراحل هشام جعيط الذي كان شديد الافتتان بنظرية المؤسس المستبد التي بلورها هيغل في فلسفته السياسية، معتبرًا أن تكوين الدول وبناء الأمم يتطلبان زعيمًا مكين السلطة قادرًا على وضع مؤسسات إدماجية عضوية تحمي النسيج الأهلي من التفكك والانقسام. ومن هذا المنظور، تكون الحالة الليبرالية لاحقة بالضرورة على تشكل الدولة، والواقع أنها حالة غير سياسية ما دامت لا تتجاوز حيز التنظيم الإجرائي للحريات الفردية في إطار مجتمعي تعددي.

في بداية التسعينيات من القرن الماضي، لم يتحمس جعيط لمسارات الانفتاح الديمقراطي في البلدان العربية، وكان اعتقاده أن الإصلاحات الليبرالية خطر على تماسك وانسجام المجتمعات العربية التي لا يزال فيها البناء السياسي هشًا وضعيفًا.
كنت أرد على جعيط بالقول إن الديمقراطية التعددية هي المسلك الناجع لإنجاز المشروع القومي الوحدوي لسببين رئيسيين هما: فاعلية القرار العمومي المستند للإرادة الشعبية الحرة التي تميل بطبعها إلى الوحدة العربية وتحمل أنظمة الحكم مسؤولية التفريط فيها، وتراجع معايير السيادة الوطنية لصالح البناء القومي بالنظر إلى تعارض السلطة المطلقة الانفرادية مع مفهوم الاندماج المشترك المؤسس على منظور السيادة المتقاسمة.
كنت أرد على جعيط من الخلفية الهيغلية نفسها: بإبراز أهمية ودور الوسائط المجتمعية من طبقات ومجتمع مدني في الدولة الوطنية الحديثة التي أصبحت حالة سياسية مركبة جامعة بين مبدأ الإرادة الذاتية الحرة والهوية الجماعية العضوية، بما يقتضي لزامًا الانتقال الديمقراطي في إدارة الدول وبناء السياسات العمومية.
والواقع أن جعيط على غرار جل المفكرين القوميين لم يكن منخرطًا في الفكرة الليبرالية، ومع أنه استبشر خيرًا بموجة الربيع العربي التي انطلقت من بلاده تونس (وكان على علاقة سيئة بنظام زين العابدين بن علي ومن قبله نظام الحبيب بورقيبة) إلا أنه لم يكن شديد التفاؤل بمآلاته.
تساءل جعيط مرة هل العالم العربي بحاجة إلى “المستبد التحرري” القادر على صناعة التاريخ والتعبير عن شخصية الأمة أم الحاكم الشرعي المنتخب شعبيًّا وإن كان محدود الأثر والتأثير، ضعيف السلطة والمقام. ولقد كان جعيط بطبيعة الحال ميالًا للخيار الأول، ومن هنا ندرك افتتانه بشخصية الرئيس العراقي الراحل صدام حسين إلى حد تبرير احتلاله للكويت من منظور ما سماه بـ”حركة التاريخ المقدسة”.

إنه يردد هنا نفس المقولة التي نطق بها الفيلسوف الألماني هيغل تجاه الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت عند مداهمته مدينة أيينا في تشرين الأول-أكتوبر 1806 في قوله “رأيت روح العالم على فرس”.

لم يختلف موقف المفكر المغربي محمد عابد الجابري عن هذا الرأي، وكان مثل جعيط مؤمنًا بالمشروع القومي العربي وقريبًا من الزعيم البعثي ميشل عفلق (الذي كان كثير اللقاء به في سنوات عمره الأخيرة). ومع أن الجابري تبنى بوضوح تبيئة الفكرة الديمقراطية في المشروع القومي العربي، إلا أنه كان حذرًا ومترددًا إزاء الأطروحة الليبرالية من خلفيات اشتراكية يسارية.

لقد اعتبر الجابري أن الأوضاع السياسية العربية تتطلب الإجماع التوافقي بين السلط الحاكمة وقوى التغيير ضمن صفقة مرحلية أطلق عليها مقولة غرامشي “الكتلة الثورية”، في الوقت الذي رأى أن المرور إلى الديمقراطية التعددية محفوف بمخاطر عديدة ولا يمكن اعتماده في المدى المنظور.

في الحالتين، نلمس نفس التخوف من الفكرة الليبرالية على الرغم من تبنى الأطروحة الديمقراطية، التي تصورها هشام جعيط في صورة التناغم الشعوري والتكتل العضوي دون الحاجة إلى وسائط مؤسسية تمثيلية، بينما تصورها محمد عابد الجابري في شكل الحوار والشراكة بين مكونات الحقل السياسي.ما نريد أن نخلص إليه هو أن التيار القومي العربي، انتبه منذ السبعينيات إلى ضرورة نقد تجربة الحكم السياسي الأحادي (الثورية الاشتراكية)، وانخرط إيجابيًّا في مساحات التعددية الديمقراطية، وإن كان لم يحقق مكاسب نوعية من ديناميكية التمثيل السياسي التعددي والانتخاب الحر.

لقد ظل الأفق الديمقراطي حتى لدى المفكرين النقديين مجرد آلية من آليات العمل السياسي، وليس تحولًا نظريًّا وأيديولوجيًّا يقتضي بالضرورة تبني واستيعاب الفكرة الليبرالية. لا يزال النسق الليبرالي عصيًّا على القوميين العرب، في رفضهم الراديكالي منح الأولوية لاعتبارات التحرر الفردي على حساب الهوية الانتمائية للمجموعة الثقافية والروحية.

ومن هنا نلمس جانبًا أساسيًّا من جوانب مأزق الخطاب السياسي العروبي.

أ.د. السيد ولد وأباه / مفكر موريتاني

spot_img