spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

نحن والحداثة: السياق والرهانات

سادت في الفكر العربي ردحًا طويلًا ثنائية “الأصالة والمعاصرة” التي نعتقد أنها ثنائية أيديولوجية تبعدنا عن الإشكالات الفلسفية والمجتمعية الحقيقية، التي تترجم بمقولتي الحداثة والتقليد.

أما الحداثة modernity، فهي مقولة دخلت بقوة في المعجم الفلسفي والأدبي والفني منذ القرن التاسع عشر، وقد تأرجحت بين مفهوم عام يتعلق بالوعي التاريخي أي بمسار التحول الزمني في دلالته الإيجابية الفاعلة، ومفهوم نظري يحيل إلى مصطلحين مركزيين هما الذاتية والاستقلالية.

ولقد اعتبر هيغل أن مبدأ “عظمة العصور الحديثة” هو الذاتية التي لا تنحصر دلالتها في الفردية بل تعني اكتشاف أفق جديد للتفكير هو الأنا في انفصالها عن الوجود وعن المجموعة السياسية والمدنية الطبيعية. ومن هنا علاقة الذاتية بالتاريخ وعلاقتها المتوترة بالماضي والموروث أي بالتقليد.

وقد اتجهت الدراسات الاجتماعية منذ دوركايم وماكس فيبر إلى تتبع مسار الحداثة في تشكلاته البنيوية، بما نلمس صياغته المكتملة في مقاربة عالم الاجتماع والفلسفة الفرنسي “مارسل غوشيه” الذي وضع نظرية مفصلة حول مسار الحداثة والتحديث من منطلق براديغم “نزع القداسة عن العالم” (disenchantment of world) الذي بلوره ماكس فيبر.

لقد ربط غوشيه هذا التوجه لإضفاء العقلنة على الطبيعة وتأكيد فاعلية الإنسان المستقلة إلى اللاهوت المسيحي نفسه، وهو هنا يستعيد أفكار ماكس فيبر الذي كان متأثرًا بقراءة الفيلسوف الألماني نيتشه للمسيحية بصفتها هيأت الأرضية لانحسار الدين من خلال تصورها البشري للإله وما يترتب عليه من نقل صفاته وسماته إلى “الإنسان الأعلى” الذي هو إنسان الحداثة المسيطر على الطبيعة.

لا شك في أن هذه المقاربة غير مسلمة لدى كبار المتخصصين في المسيحية الوسيطة وفي مقدمتهم المؤرخ الأشهر بول فاين الذي كتب عملًا هامًا بعنوان “كيف أصبحت أوروبا مسيحية؟” بين فيه أن حركية التحديث والتنوير تمت على حساب اللاهوت الديني الوسيط.

ولقد أسس غوشيه على خلفياته التاريخية استنتاجًا مفاده أن الحداثة في منطقها العميق هي “الخروج من التصور الديني للمجتمع”، وهو يعني هنا الانتقال من مبدأ المرجعية العليا (hétéronomie) إلى مبدأ الاستقلالية الذي هو المحدد المحوري للمجتمعات الحديثة.

لا يعني الخروج من الدين بالنسبة لغوشيه نهاية الاعتقاد والممارسة الدينية، بل قيام رؤية إنسانية محايثة للنظام الاجتماعي المشترك، من خلال صور ثلاث هي: الدولة القومية، ومنظومة حقوق الإنسان وإنتاج المستقبل.

ودون الخوض في هذه الصور في ترابطها وتصادمها وتحولاتها الراهنة، نكتفي بتقديم ملاحظتين على أطروحة غوشيه:

أولاهما: إن غوشيه في مقاربته للسياقات الاجتماعية للدين وقف عند جوانب القطيعة وهي عديدة في التجربة الأوروبية، لكنه أهمل جوانب الامتداد والاستمرارية التي لا يمكن الشك فيها. ففضلًا عن ما لاحظه هيغل ونيتشه ومن بعدهما هايدغر من كون النزعة الذاتية لها خلفياتها اللاهوتية التي ترجع إلى انفصال معنى الألوهية عن الوجود والإنسان بما يفسح المجال أمام عقلنة الطبيعة والمجتمع (وهي ظاهرة تشمل كل الديانات التوحيدية التي تقول بعقيدة الخلق والاختلاف المطلق بين الإلهي والبشري)، فإن العلمنة نفسها بقدر ما هي عملية قطيعة مع الدين هي نقل لمضامينه من حقل اللاهوت إلى المجال السياسي والقانوني. ولقد بين كارل شميت أن المفاهيم الأساسية في الحداثة السياسية مثل السيادة والتمثيل، ليست في أصلها سوى مقولات لاهوتية تمت عقلنتها لاحقًا. ولقد أصبحت الأنثربولوجيا السياسية ميالة إلى هذا الفهم للدولة الحديثة من حيث كونها تقوم على المقدس الديني، أي مرجعية الغيب والطهارة والقربان (بيار بورديو، رجيس دوبريه، رنيه جيرار ..). ومن هنا يمكن القول إن فهم ديناميكية الحداثة في قطيعة مع الدين لا يستقيم في إطلاقه، ولقد أقر غوشيه نفسه أن الحداثة الأمريكية قامت على العلاقة العضوية بين الدين والحرية على عكس التجربة الأوروبية، ويمكن أن نوسع هذا الحكم على العديد من التجارب الحداثية الأخرى في العالم.

ثانيًا: إن الحداثة وإن كانت تدور بكاملها حول فكرة الاستقلالية التي اعتبر كانط أنها المرجعية الضرورية للأخلاق والقانون في المجتمعات الحديثة، إلا أن هذه الفكرة المحورية تمت ترجمتها في مقاربتين متغايرتين: مقاربة الوعي بالذات وما تعنيه من استقلالية فردية مطلقة ناتجة عن حرية الإرادة وأولوية اختياراتها على السلط والتقاليد والأنساق القائمة (تيار ديكارت ولوك)، ومقاربة الانتماء والمشاركة التي تفهم فاعلية الذات الحرة بالمعنى النقاشي الحواري والتفاعلي المفضي إلى تشكل الإرادة الجماعية وبناء القيم المرجعية في إطار المغايرة وتداخل الذوات (تيار سبينوزا وروسو).

وعلى عكس الرؤية التي تعتبر أننا دخلنا حقبة “ما بعد الحداثة” التي يفسرها البعض بنهاية براديغم الذاتية ودخول الفكر في “المنعرج اللغوي” (رورتي) ويفهمها البعض الآخر “بنهاية السرديات الكبرى” (ليوتار)، نعتقد أن التوتر الداخلي في حركية الحداثة بين الدلالتين المتعارضتين للاستقلالية هو الذي أفضى إلى الإشكالات الراهنة المعقدة في تصور وتقويم الحداثة.

إن هذا الإشكال يبرز بوضوح حاليًا في تصادم أربعة اتجاهات كبرى في الساحة الفكرية والأيديولوجية: التيار الليبرالي المحافظ الذي يرى أن قيم الحرية والاستقلالية يجب أن تراعي التقاليد المجتمعية التي تشكل أساس هويات المجتمعات وخصوصيتها، والتيار النيوليبرالي الذي يدعو للعودة إلى قيم الفردية ومنطق السوق الحرة وتقييد دور الدولة في الشأن الاقتصادي والقانوني، والتيار المجموعاتي الذي يتبنى فكرة الذاتية الثقافية الشاملة ومنطق الاعتراف الاجتماعي، والتيار الجمهوري المدني الذي يركز على معايير المشاركة السياسية والبناء المؤسسي المركزي للدولة.

لا يمكن النظر في مسار الحداثة تقويمًا وتشخيصًا دون إدراك هذه الرهانات الإشكالية المعقدة التي واكبت هذا المسار منذ بدايته. وما نلاحظه اليوم في الكتابات العربية السيارة هو إما التبشير الأيديولوجي بمفاهيم وقيم الحداثة من خارج هذا السياق المرجعي المعقد، أو الانجراف الساذج إلى مقولات ما بعد الحداثة وكأنها البديل المتاح لحداثة فشلنا في بلوغها وتحقيقها.

أ.د السيد ولد أباه / مفكر موربتاني

spot_img