أستعير هذا العنوان من الصديق المفكر اللبناني رضوان السيد، الذي يعتبر أن خطابًا إِسْلَامِيًّا جديدًا قد برز بوضوح في السنوات الأخيرة، في دوائر إصلاحية معتدلة ومبادرات فكرية متنوعة.
حسب رضوان السيد، يتشكل هذا الخطاب من ثلاثة مرتكزات: قيمة الرحمة محورًا لعلاقة الإله الخالق بالبشر، وقيمة التعارف إطارًا للعلاقات الإنسانية، ومقاصد الشريعة قاعدة تأويلية للدين في منظوره الدلالي وسياقاته التنزيلية.
ليس المقام هنا مناسبًا للحديث عن الأبعاد الرمزية والقيمية لمقولتي الرحمة والتعارف وهما مقولتان قرآنيتان جوهريتان، وإنما سنواصل حديثنا السابق عن مقاصد الشريعة.
السؤال المطروح هنا مزدوج: يتعلق من جهة بمنزلة مقاصد الشريعة في منهج استثمار الدلالة الشرعية من النص، ويتعلق من جهة أخرى بالنظرة التأويلية لمنظومة المقاصد في فلسفة الدين.
بخصوص الجانب الأول، لن نعود إلى الحديث حول الإشكال الذي طرحه الشاطبي ورجع إليه بن عاشور حول علاقة مبحث مقاصد الشريعة بالمنهجية الأصولية. ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن الفكرة المحورية التي ينطلق منها الأصوليون منذ الإمام الشافعي هي المرجعية المطلقة للنص في التعبير عن إرادة الشارع واستنباط أحكامه.
بيد أن آيات الأحكام في النص محدودة لا تتجاوز في القرآن الكريم حوالي خمسمئة آية حسب المحققين من المفسرين، وهي شاملة هنا للعبادات والمعاملات أي الأحكام التكليفية أجمعها التي تتأرجح بين الوجوب والحرمة وغيرها من ضروب الأمر تحسينًا وكراهية.
ومن هنا، لا يمكن اعتبار الشريعة مدونة أحكام على غرار التصورات القانونية الحديثة، بل هي هدي وتوجيه، أخلاق ونظم، أو حسب عبارة وائل حلاق التي يستعيرها من ميشال فوكو هي “ممارسة خطابية” تنفذ إلى كامل محددات وعناصر الجسم الاجتماعي في تفاعله الحي مع حركية التاريخ والتحول.
ولا بد هنا من التمييز بين الأصول الشرعية العليا التي هي ثوابت الدين المرجعية المطلقة، وقواعد الفقه العملية، ومنهج أصول الفقه التي كما بيّن ابن خلدون لم تكن الطريقة القبلية التي يطبقها الفقهاء على الوقائع المستجدة بل هي حصيلة بعدية للممارسة الفقهية .
وإذا كان العلماء ذهبوا إجمالًا إلى أن الفتوى تبليغ عن الله أو إخبار عنه، إلا أنهم أكدوا في الوقت نفسه أنها في غالب الأحيان اجتهادية ظنية، تعتريها ثنائية التكليف والوضع: أي خطاب الأمر المطلق وظروف التنزيل من أسباب، وشروط وموانع .
ومن هنا زيف المقاربات التأويلية المباشرة التي تدعي القدرة للوصول إلى النص في معانيه الأصلية الثابتة كما هو توجه النظريات السلفية الجديدة، في حين أن التراث التأويلي يشكل سلطة مرجعية لا سبيل للانفكاك منها، إنه مقوم ما يسميه بول ريكور “الهوية السردية” للأمة، بمعنى علاقتها المتجددة بذاتها من خلال التفكير الحي في أصولها، ومرجعياتها ونصوصها.
لقد أدرك الأصوليون الأقدمون التفاوت الموضوعي بين ندرة النصوص واتساع الوقائع، وطوروا لحل هذه المعضلة أداتين متمايزتين هما القياس التمثيلي والتأصيل بالكليات.
أما القياس، فهو كما عرفها الغزالي: “حمل معلوم على معلوم، في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما، بأمر يجمع بينهما، من إثبات حكم، أو صفة أو نفيهما”. إنه بهذا المعنى توسع في دلالة الحكم الأصلي من خلال عملية استقرائية تربط بين جزئيات مختلفة السياق، لعلة مشتركة بينها. ولذا، فإن آلية القياس طرحت دومًا إشكاليات معقدة للأصوليين، إما من حيث استنادها الضمني لفكرة التعليل العقلي التي يرفضها الأشاعرة وهم جمهور أهل السنة، أو من حيث محدودية وقصور منظورها الاستقرائي بما يفسر نهج الأصوليين منذ الجويني والغزالي إلى استبدال قياس التمثيل بالقياس البرهاني المنطقي .
أما التأصيل بالكليات، فهو المسلك الذي اعتمده الأصوليون في استظهارهم لضرورات الشرع ومقاصده. الأساس هنا ليس مدونة الأحكام القطعية من حيث هي مرجعيات التشريع التفصيلي، وإنما المرتكزات الثابتة والقواعد العامة في الدين. ومن الواضح أن الأصوليين لا يمكنهم بأي حال من الأحوال الاستغناء عن الأخذ بالكليات في تحقيقهم لمناط الحكم أي تنزيله في الواقع. ذلك ما يوضحه الشيخ عبد الله بن بية بقوله:
“فعملية تحقيق المناط عبارة عن البحث عن الواقع، وملاحظة هذا الواقع حتى نطبّق عليه حكم الأصل. والفرق بينها وبين القياس: أنك لا تلحق فيها بأصل معين، بل تنزل الحكم بناء على العلة التي أصبحت بمنزلة الكلي.”
لا يمكن إذن أن يخلو اجتهاد أو تأويل أو تنزيل للحكم الشرعي من تحقيق المناط الذي هو الإطار التطبيقي لمعايير وأوامر وقيم الدين.
لقد اتجه الفقهاء والمفكرون المعاصرون إلى اعتماد نهج التأصيل بالكليات، وإن كان هذا المجهود لا يزال دون مستوى بناء فلسفة حقيقية في الدين من المنظور الإسلامي.
في التقليد المسيحي، يرجع هذا المسلك إلى الفيلسوف الألماني كانط الذي عمل على تعويض اللاهوت العقلي بنظرية فلسفية جديدة تقوم على ترجمة المضامين القيمية والأخلاقية الدينية في لغة العقل العمومي البرهانية، بما هو بارز في كتابه “الدين في حدود مجرد العقل”. إنه المشروع الذي وصل محطته الحالية في كتاب هابرماس الأخير “بين الطبيعانية والدين” بعد انتكاسة محاولة هيغل استئناف حركية اللاهوت الفلسفي المسيحي من خلال “المثالية الألمانية”.
كيف يمكن تأسيس فلسفة دين في الإسلام على أساس منظومة “مقاصد الشريعة”؟
لقد حاول محمد إقبال بناء هذه الفلسفة في كتابه “تجديد الفكر الديني في الإسلام” من منظور فكرتي الوجود الحركي في مقابل أنطولوجيا الصور والجواهر الثابتة (في التقليد الفلسفي اليوناني واللاتيني) والذاتية الفاعلة والنشطة، في مقابل الفردية المنعزلة في الفلسفات الأوروبية الحديثة.
ولقد استثمر إقبال التقليد الصوفي الكلامي الواسع في بناء هذا المضمون الفلسفي الذي ترجمه رضوان السيد في ثلاثية الرحمة والاعتراف والمقاصد، من حيث هي مقومات السردية الإسلامية الجديدة.
الدكتور السيد ولد أباه / مفكر موريتاني