لم يسل مداد في التاريخ الاسلامي الحديث كما سال على أوراق مفكري السياسة والدولة في الاسلام المعاصر، فقد تعددت التنظيرات من قائل بأن الاسلام دين وسياسة ودولة، وقائل أن السياسة والدولة لا علاقة لهما بالاسلام بإعتباره دين شعائريا تعبديا محض.
ولكل رأيه وسياقاته التي أوردها، والتي تحتاج لبحوث وأطروحات تعيد النظر في كلا الموقفين، أوحتى تلك المقولات التي تحاول تحليل الظاهرة دون أن تدخل في أحكام قد توصف بالمسبقة.
لعل احتدام المعارك حول مفهوم الدولة في الاسلام بدأ مع كتاب الإسلام وأصول الحكم وهوكتاب للشيخ الأزهري علي عبد الرازق صدر في 1925م، وقد أحدث ضجة في مصر بسبب رفضه لفكرة الخلافة والدعوة إلى مدنية الدولة، مما أدى إلى مساجلات سياسية ودينية كبيرة، وقامت هيئة كبار العلماء في الأزهر بمحاكمة علي عبد الرازق وأخرجته من زمرة العلماء الأزهريين وفصلته من العمل.
فالشيخ عبد الرزاق قدم نظرية علمانية تسند لقراءة جديدة للنص الديني تربطه بسياقه التاريخي الذي أنزل فيه، دون أن يكون لهذا النص شرعية تفوق الزمن، فيقرر أن ” زعامة النبي صلى الله عليه وسلم زعامة دينية، جاءت عن طريق الرسالة لا غير. وانتهت الرسالة بموته صلى الله عليه وسلم فانتهت الزعامة أيضا، وما كان لأحد أن يخلفه في زعامته، كما أنه لم يكن لأحد أن يخلفه في رسالته. فإن كان ولا بد من زعامة بين أتباع النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فإنما تلك زعامة جديدة غير التي عرفناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم “.
فالدولة التي قامت بعد وفاة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ما هي إلا دولة عربية ذات دعوة دينية، ” فقد كانوا إنما يتشاورون في أمر مملكة تقام ودولة تشاد، وحكومة تنشأ إنشاء. ولذلك جرى على لسانهم يومئذ ذكر الإمارة، والوزارة والوزراء، وتذكروا القوة والسيف، والعزة والثروة، والعدد والمنعة، والبأس والنجدة . وما كان كل ذلك إلا خوضا في الملك، وقياما بالدولة. وكان من أثر ذلك ما كان من تنافس المهاجرين والأنصار وكبار الصحابة بعضهم مع بعض، حتى تمت البيعة لأبي بكر فكان هو أول ملك في الإسلام”.
فالدولة الخلافة التي قامة في عهد أبي بكر بحسب مفهوم على عبد الرزاق لا علاقة لها بالدين فهي كغيرها من الدول والإمبراطوريات في ذاك العهد فالدين الاسلامي بالنسبة له ” بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء مما هيئوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عزة وقوة. والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرها من وزائف الحكم ومراكز الدولة . وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهولم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا، لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم، وقواعد السياسة “.
نظرية الشيخ على عبد الرزاق واجهت ردا من عدد من المفكرين والعلماء الذين عاصروه، وخاصة من الفقيه القانوني البروفسور عبد الرزاق السنهوري الذي رأى بأن ” فكرتي الدولة والدين لم يكن التمييز بينهما بهذا الوضوح وهذه الصورة في عهد الرسول وما قبله، لأن النظم السياسية كانت تقوم غالبا على اعتبارات دينية دون أن يغير ذلك من طبيعتها المدنية، وهذا هوالذي يفسر لنا الطابع الديني والمدني الذي اصطبغت به النظم السياسية في الإسلام.
ويضيف السنهوري بأن حجة علي الرزاق القائلة بأن الدولة في عهد النبي غير محكمة ـ وهي الأساسية التي يعتمد عليها في نظريته ـ فإن ذلك لا يصلح سندا له، لأن سببه هوالحالة الفطرية التي كانت تسيطر على المجتمع في جزيرة العرب في ذلك الوقت، والتي كانت لا تسمح بوجود نظم دقيقة ومعقدة، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وضع لحكومته أصلح النظم الممكنة في زمنه، لأنها تتناسب مع حالة المجتمع كما فعل [ صولون Solón ] في أثينا . ولا يعاب عليه أن حكومته لم تشمل النظم الموجودة في العصر الحاضر، لأن هذه النظم ما كانت تناسب المجتمع الذي كان يعيش فيه، ومع ذلك فإن حكومة النبي أقامت دولة حقيقية لا تقل في نظمها عن الدولة الرومانية في بدايتها، فالنبي وضع بالفعل النظم الأساسية للدولة الإسلامية، فأوجد نظاما للضرائب وللتشريع ونظما إدارية عسكرية “.
وفي سياق مغاير يرى برتان بادي Bertrand Badie أن مفهوم الدولة في السياق الاسلامي يرتبط بسياق الامبراطورية الاسلامية، التي اعتمدت في توسعها على العقيدة الاسلامية، وعلى المثاقفة والاستفادة من تجارب الامبراطوريات السابقة، في التنظيم مع طابع تأويلي، يؤكد أن ” أساس الاستيراد والتوفيق بين المتناقضات . استيراد نماذج لحكومة بيزنطية أوفارسية، والانتفاع بالفكر السياسي الاغريقي مع إعادة تفسيره. إن اللجوء إلى النموذج الساساني ليس أمرا غير ذي بال، ويدل على أهمية قيام ابن المقفع بترجمة وصية السلطان ملكشاه، كما يكشف عنها الاستناد إلى نموذج لم يكن يفرق بين الملكية والدين، وكان الدين فيه هوأساس الملك . وتم الاستناد ايضا الى الفلسفة السياسية الاغريقية بطريقة متزامنة حيث ترجمت النصوص اليونانية الأولى في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي أي في ذات الوقت الذي بدأت فيه الدولة العباسية تقيم مؤسساتها. ومنذ ذلك الوقت يتكيف تاريخ العالم الاسلامي من خلال التعارض بين أنصار النموذج الاغريقي وبين التقليديين، ووفقا لأنماط تذكرنا بالمجادلات الحديثة وتدل على بناء مفردات لغة سياسية للثقافة الاسلامية تدريجيا “.
النظرة التلفيقية التي يقدمها برتان بادي للدولة في السياق الاسلامي لا تختلف عن ما قدمه الدكتور عبد الله العروي الذي يرى تشابها بين دولة المدينة ( يثرب ) والقيادة القبلية، وإن كان يؤكد اختلاف الهدف من الحكم بين النظامين بحيث لايمكن القول إن دولة المدينة زعامة قبلية مدعمة بدعوة دينية لأن الدعوة مناقضة للزعامة المذكورة.
وفي ذات السياق يرى العروي أنه ” بعد الفتوحات الكبرى، ورث العرب أجهزة الدولتين البزنطية والفارسية، هي أجهزة مماثلة إلى حد كبير . نشأت الدولة التاريخية في آسيا الغربية مبنية على الحق الإلهي وسلطة فردية مطلقة مستهدفة الشهرة والقهر والرفاهية. بعد فتوحات إسكندر المقدوني ” وبهذ يعتبر العروي بأ نه لما ظهر الاسلام وجد نفسه في عالم لا يعترف سوى بأجهزة هذه الامبراطورية الاسيوية، فورثها العرب تلقائيا رغم أنها تعارض أهداف الإسلام والتنظيمات القبلية، بالنسبة للشرع وللقبيلة مثلت الدولة الآسيوية عنصر النظام. “لا أحد ينكر تواجد العناصر الثلاثة العربي، الاسلامي، الاسيوي ـ فيما نسميه بالدولة الاسلامية “.
هذا السياق التلفيقي قد لا يأخذ في عين الاعتبار العلاقة بين الدين والسلطة في السياق التاريخي للدولة في الاسلام، وهوما يطرحه الدكتور رضوان السيد حين يرى بأن هذه العلاقة اعتمدت على مبدأ فصل الصلاحيات بين سلطات الخليفة والفقيه في إطار من المؤسسية، وإن كان الاسلام لا يعترف بقدسية المؤسسة الدينية ” فالسلطات كانت تعين القضاة، وتتدخل في بعض الأقضية، ولكنها ما كانت تنجح دائما في فرض ما تريد، فقد كان المصريون مثلا متعارفين على تقليد وممارسة الوقف، لكن الأمويين والعباسيين الاوائل عينوا قضاة ما كانوا يرون اويصححوا تأييد الوقف، فما نجحوفي رأيهم . ونعرف من جهة أخرى أن أواخر الامويين وأوائل العباسيين كانويستفتون العلماء في أمور كثيرة فيوافقونهم ويخالفونهم ، وبخاصة أن العلماء أنفسهم كانوا قد انقسموا أوتوزعوا في إتجاهات بين الحجاز والعراق ومصر والشام. ولذا فقد أثر عن عمر بن عبد العزيز أنه أراد أن يجعل قضاء الأجناد قضاء واحدا، ثم اعرض عن ذلك، لأنه تعذر عليه إرغام القضاة على مخافة أعراف أمصارهم، وهكذا ما كانت هناك مؤسسة دينية ، بل كانت هناك بدايات وبدايات محلية أومتعلقة بالأمصار، ولذلك أمكن للسلطة التدخل في حدود ما لا يمس مصلحة قوية لمصرا من الامصار”
إلا أن الصدام التاريخي الذي وقع بين المامون والفقهاء المحدثين ( رواة الحديث النبوي النبوي ) واضطهاد السلطة للمعارضين على مدى خمسة عشر عاما، ثم انهى الامر بالخليفة المتوكل إلى إعلان التخلي عن ذلك، ونهى الناس عن الجدال في الدين، ففاز ابن حنبل ومشايعوه و”الاهم من ذلك مصالحة تاريخية بين المؤسسة السياسية والمؤسسة الدينية على تقسيم العمل، أوتحديد مجالين، بحيث تعمل كل سلطة في مجالها، ومن دون تدخل من الأخرى فيه، وظلت هناك بعض المناوشات على أطراف المجالين. ولا شك في أن المؤسسة السياسية الخليفية والسلطانية ظلت أقوى، لكنها كانت تجنب التدخل في الشأن الديني حتى لا يحدث تمرد أوتمردات باسم الدين ( حدثت في المغرب الاسلامي ) يمكن أوفي ذات السياق من ان تهدد السلطات أوتسهم في تغييرها”.
وفي ذات السياق من يرى أن العلاقة بين الفقيه والسلطة ترسم حدودا للسلطات داخل الدولة فيقول ” إذا كان الامام ورث عن الرسول صلى الله عليه وسلم السلطتين القضائية والتنفيذية فحسب، فإن السلطة التشريعية كانت للفقهاء وحدهم ويقول أحد كبار الفققاء المعاصرين : ’ السياسة لها دور في التطبيق، وأما الفقهاء فدورهم في التأصيل، وينبغي على الفقيه أن يكون هوالسيد في هذه الأمور، أما الحاكم فهوالمنفذ لأصول الشريعة وأحكامها . ونحوهذا عند الإمام الغزالي الذي يقول: ’ الفقيه هوالعالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات، فكان الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طرق سياسة الخلق وضبطهم لينتظم باستقامتهم أمورهم في الدنيا ؛ “.
ويرى برنارد لويس Bernard Lewis أنه من الصعب التمييز بين المسجد والدولة، بعكس السياق المسيحي الذي يقر بأن ما لقيصر لقيصر وما لله لله..” ..على طول تاريخ المسيحية توجد سلطتان : االله وقيصر ممثلتين في هذ العالم للسلطة الدينية المقدسة sacertium والسلطة الزمنية أوالحاكمة regnum .. وفي العصر الحديث تمثلهما الكنيسة والحكومة، هاتان السلطتان قد تتحدان وقد تنفصل كل منهما عن الأخرى، ولكن هناك سلطتين موجودتين على الدوام : السلطة الروحية والسلطة الزمنية وكل سلطة لها قوانينها وشرائعها وبنيتها الخاصة ورجالها. وفي الاسلام – قبل ان يتغرب- لم تكن هناك سلطتان بل وجدت سلطة واحدة ومن ثم لم يكن من الممكن أن تظهر مسألة الفصل أوالحد الفاصل بين المؤسسة الدينية والدولة الضارب بجذوره إلى هذ الحد في المسيحية، لم يوجد هذا في الاسلام، وفي اللغة العربية الكلاسيكية كما في اللغات الأخرى التي أخذت منها معجمها الثقافي والسياسي، لم يكن هناك “زوج” من الألفاظ يعبر عن الروحي والزمني، الأكريلي والأرضي والديني والعلماني. لم تكن هذه الظاهرة موجودة حتى القرنين التاسع عشر والعشرين عندما ظهرت تلك الكلمات الحديثة تحت تأثير المؤسسات والأفكار الغربية أولا في التركية ثم في العربية لكي تعبر عن فكرة العلماني “.
اشكال الدولة في الاسلام يطرح عدة استفهامات سواء القائلين بوجود مفهوم تأصيلي للدولة في الاسلام، اوالقائلين بنفي أية علاقة بين الاسلام والدولة والسياسة والحكم.
فالقائلون بإطلاقية الدولة في الاسلام يتجاوزون حدود سلطة الزمان والمكان، والقائلون بالنفي يتجاهلون الشحنات السياسية التي صاحبت الاسلام طيلة تاريخه. فروبرت سبينسر Robert Spencer يرى بأنه لا يوجد فرق بين الاسلام والاسلام السياسي، فمن غير المنطقي الفصل بينهما، فالاسلام في نظره يحمل في مبادئه أهدافا سياسية، فهويرى بأن الاسلام ليس مجرد دين للمسلمين وإنما هوطريقة وأسلوب للحياة وفيه تعليمات وأوامر من أبسط الفعاليات كالاكل والشرب إلى الامور الروحية الاكثر تعقيدا.
محمد السالك ولد داهي / باحث في قضايا الفكر الإسلامي