spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

معركة غزّة ومآلات المشروع الصهيوني

في هذه الأيام المأسوية التي نعيش فيها العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزّة، في ما أصبح حرب إبادة حقيقية، أذكُر أني أصدرتُ قبل عشرين سنة دراسة حول مستقبل إسرائيل وأزمة المشروع الصهيوني، تمحورت وقتها حول الأزمة الفكرية والمجتمعية العميقة التي تمرّ بها الدولة العبرية، مستعرضًا المؤلفات والكتابات التي تندرج في إطار ما يُسمّى بالمؤرّخين الجدد في إسرائيل وتيار ما بعد الصهيونية.

لقد برز للجميع أنّ المشروع الصهيوني الأصلي قد دخل في أفق مسدود بما يتجسّد اليوم في قيام تيار ديني قومي متشدّد وعنيف حاكم في تل أبيب، مع العلم أنّ النزعة الصهيونية منذ بدايتها تأسّست على توجّهات عنصرية وأسطورية وإن اعتمدت واجهة حداثية مموّهة.

لقد أرادت الفكرة الصهيونية حلّ ما عُرف في الفكر الغربي بالقضية اليهودية من خلال مشروع الدولة التي أرادها الجيل الأول من التيار الصهيوني “دولة علمانية اشتراكية” تستخدم الدين مرتكزًا للشرعية من خلال تحويله إلى أساس هوية قومية مختلقة.

لقد لاحظت الفيلسوفة اليهودية الألمانية – الأمريكية حنة أرندت منذ الأربعينيات أنّ المشروع الصهيوني هو الوجه الآخر لنزعة المعاداة للسامية، باعتباره يتقاسم معها فكرة الأمّة القومية بالمعنى البيولوجي العضوي، ويتفق معها في أطروحة عزل اليهود وفي التصوّر العدائي للآخر أي الحاجة الدائمة إلى الخطر الخارجي الذي يوطد اللحمة الداخلية.

لقد عكس قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة ٣٣٧٩ الصادر عام ١٩٧٥ (الذي ألغي مع الأسف لاحقًا) الإجماع الواسع حول مساواة الصهيونية بالعنصرية، وهو ما نلمسه اليوم بقيام نمط من “الاستيطان العنصري” الموازي لنظام “الأبارتيد” في المناطق الفلسطينية بعد أن قُضي عمليًا على كل إمكانات قيام الدولة الفلسطينية المستقلة.

في سبتمبر ٢٠٠٣ كتب افراهام بورغ، الرئيس الأسبق للكنيست وللوكالة اليهودية، مقالًا بعنوان “موت الثورة الصهيونية” في صحيفة “يديعوت أحرنوت” ذهب فيه إلى أنّ “الأمّة الإسرائيلية ليست اليوم سوى خليط لا شكل له من الفساد والقمع والظلم”، لا مكان فيه للأخلاق المدنية والقانون. وقد خلص بورغ إلى أنّ التمييز العنصري ضد الفلسطينيين، مع نسف مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة، لا يمكن أن ينتج معادلة قابلة للاستمرار وسيجرّ حتمًا إلى انفجار داخلي عنيف من ضحاياه ما يُسمّى بالديمقراطية الإسرائيلية نفسها .

ما نبّهت إليه حنة أرندت مبكرًا وكرّره بورغ، هو ما نعيشه اليوم من انسداد المشروع الصهيوني الذي فشل في هدفيه الأساسيين، رغم القوة العسكرية الإسرائيلية الضاربة والدعم الغربي الكامل: تحقيق الوطن الآمن للشعوب اليهودية في العالم، وإنهاء القضية الوطنية الفلسطينية.

ما نشهده راهنًا هو انفجار الوضع الأمني داخل إسرائيل وفي المحيط الجغرافي الذي تحتلّه إلى حد أنّ تكلفة الاستيطان أصبحت غالية وخطيرة بالنسبة للمهاجرين اليهود من دول العالم، كما أنّ الأحداث الأخيرة بيّنت أنّ القضية الفلسطينية لا تزال حيّة وقويّة في الوعي العربي والإنساني.

المأزق الذي تعيشه إسرائيل راهنًا هو أنها وصلت إلى الحدود القصوى للحلّ العسكري العنيف الذي فشل في تقويض القضية الفلسطينية من خلال الإبادة أو التهجير القسري.

لقد عبّر المفكّر الفرنسي برتراند بادي عن هذا المأزق بمقولة “عجز القوة” (Impuissance de la puissance) التي تعني أنّ الحروب الجديدة لا تقوم على موازين القوة الخشنة، وإنما تتحكّم فيها الموازين الاجتماعية وحالة الرأي العام، بما ينجم عنه في الغالب انتصار الضعيف على القوي في معركة تتم على أرضية الأهواء والمشاعر والصورة .

حرب غزّة الحالية تندرج في هذا السياق، وهي حرب لا يمكن لإسرائيل أن تنتصر فيها ولو تمكّنت من تدمير الأبنية وقتل المدنيين العزّل، بل ستؤدي حتمًا إلى تركيز الاهتمام مجددًا على المأساة الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني العادلة.

 

spot_img