في الانتخابات الأوروبية الأخيرة (بين يومي 6 و9 يونيو الجاري)، عززت رئيسة وزراء إيطاليا جيورجيا ميلوني مكاسبها السياسية، بحصول حزبها على قرابة ثلاثين بالمائة من أصوات الناخبين. ومع أن اليمين الراديكالي في جل دول أوروبا حقق نتائج غير مسبوقة، إلا أن الأمر يتعلق في الحقيقة باتجاهين متمايزين لا زال أحدهما قريباً من النزعات القومية المتطرفة في تركيزه على هاجس الهوية السيادية والخصوصية الحضارية ورفضه للديمقراطية الليبرالية، في حين يعتمد الآخرُ قيمَ الليبرالية المحافِظة ضمن النسق الأوروبي العام. في البرلمان الأوروبي شكّل اليمين الراديكالي مجموعتين متمايزتين هما «مجموعة الهوية والديمقراطية» ومجموعة «المحافظين والإصلاحيين»، بما يحيل إلى المعادلة المذكورة.
لقد درس هذا التحول عالم الاجتماع تيبوت ميزرعس في كتابه الأخير الصادر بعنوان «ما بعد الشعبوية». وفيه يبين أن إيطاليا تشكل مختبراً هاماً للتجارب السياسية الأوروبية كما كانت دوماً في السابق. في هذا البلد صعد إلى السلطة أولُ زعيم شعبوي غربي هو برلسكوني، سنة 1994، قبل وصول التشكيلات اليمينية الشعبوبة إلى بلدان أخرى، وقبل وصول دونالد ترامب إلى الحكم في الولايات المتحدة، وقبل استفتاء البريكسيت في بريطانيا سنة 2016.
وحسب المؤلف، تمثل تجربة رئيسة الوزراء الإيطالية ميلوني التي انتُخبت عام 2022 نموذجاً جديداً يدعوه بما بعد الشعبوية، سيكون له تأثير واسع في بقية الدول الأوروبية، من حيث التوجهات والسياسات والبرامج الحكومية. ميلوني تختلف نوعياً عن سلفها الشعبوي اليميني سلفيني، كما تختلف عن حزب سيريزيا اليوناني الذي أخفق في الاحتفاظ بالسلطة، وعن حزب فوكس الإسباني المتآكل.الأمر هنا يتعلق بالعودة إلى ثنائية اليمين واليسار التقليدية، لكن من منظور جديد كلياً، مع العلم بأن الشعبوية لم تكن خاصة بأحزاب اليمين وحدها، بل إن بعض الحركات اليسارية اعتمدت المسلكَ ذاتَه عبر التشكيك في الديمقراطية الانتخابية والهجوم على النخب المتحكمة اجتماعياً.
اليسار الجديد (كما هو بارز مثلا في الدنمارك) يختلف عن الاشتراكية الديمقراطية في تشديده على موضوعات الهوية والعدالة التمييزية، ولو اقتضى الحال اللجوء إلى بعض السياسات اليمينية التقليدية (مثل تقييد حركية الهجرة)، في حين تخلى اليمين الشعبوي عن إجراءات تقويض المؤسسات العمومية والحد من استقلال القضاء والتخلي عن ديناميكية الاندماج الأوروبي.
لقد اعتمدت رئيسة الحكومة الإيطالية ميلوني سياسةً ليبرالية تقليدية، لا تختلف في الجوهر عن برامج الحكومات اليمينية المعتدلة، حتى في موضوع الهجرة المعقد والسياسة الخارجية، وإن تمسكت برؤية محافظة في الملفات الاجتماعية المطروحة. وحسب ميزرعس، فقد بدأت الموجة الشعبوبة في العقد الماضي، نتيجة لبعض العوامل، أهمها الأزمة العميقة التي عرفتها المنظومة الليبرالية خلال الأزمة الاقتصادية لسنة 2008 وقد ضربت أوانها بقوة مختلفَ الدول الأوروبية، وفي مقدمتها المجر واليونان، الدولتان اللتان انطلقت منهما التجارب الشعبوية اليمينية الحالية.
إلا أن العديدَ من الأحداث الأخيرة دفعت إلى انحسار هذه الموجة، مثل تحدي جائحة كورونا التي فشلت في مواجهتها الأنظمة الشعبوية، والآثار السلبية الفادحة لخيار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وردود الفعل التي واكبت هزيمة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وانعكاسات الحرب الأوكرانية الحالية على الصعيد الأوروبي.
وهكذا تراجعت بوتيرة متسارعة جلُّ الأحزاب الشعبوية اليمينية في عموم البلدان الأوروبية (باستثناء فرنسا)، وبدأت تبرز تشكيلاتٌ جديدة مغايرةٌ مِن حيث البرامج والتوجهات.
وإذا كان الحديث قد كثُر في السنوات الأخيرة حول نهاية ثنائية اليمين واليسار التي طبعت الحياة السياسية في الغرب الليبرالي خلال القرنين الماضيين، باعتبار أنها ارتبطت تاريخياً بالمسألة العمالية، فإن ميزرعس يرى أن الاستقطاب ذاته لا يزال قائماً بعد نهاية الموجة الشعبوية التي قوضت مرحلياً هذه القسمة الأيديولوجية.
ومعلوم أن اليمين الليبرالي والاشتراكية الديمقراطية يتفقان في المحددات الجوهرية، مثل: دولة القانون، ونظام الفصل بين السلطات، وآليات التنافس الانتخابي.. وإن اختلفا في طبيعة البرامج المجتمعية.
ما تعيشه أوروبا حالياً هو بروز خط تصدع جديد ضمن الثنائية نفسها على أساس التجاذب بين الليبرالية المحافظة والليبرالية التقدمية، بما نلمسه بوضوح في الخطاب السياسي للقوى الصاعدة في المعترك الانتخابي. في هذا المعترك يبدو أن الشعبويات الراديكالية، من يمين ويسار، لا مكان لها في المستقبل المنظور وإن كانت في جوهرها تمثل تعبيراً عن غضب اجتماعي عارم لم يعد بالإمكان احتواؤه بالقنوات المؤسسية التقليدية.