إننا بحاجة اليوم إلى أن نفتح نقاشا جديا حول حادثة مقتل الشاب عمار جوب رحمه الله، ومقتل الشاب محمد الأمين ولد صمب من بعد ذلك، وما صاحب الحادثتين من أعمال شغب ونهب، ولعل السؤال الأبرز الذي يجب علينا أن نفتتح به هذا النقاش هو السؤال الذي يقول: كيف نفرق بين الاحتجاجات وأعمال الشغب؟
كثيرا ما يقع خلطٌ كبيرٌ بين الاحتجاج والتظاهر من جهة، وأعمال الشغب والنهب من جهة أخرى، ولذا فمن المهم أن نحدد بعض النقاط التي يمكن نستأنس بها للتفريق بين الاحتجاجات وأعمال الشغب.
أولا / الاحتجاج والتظاهر:
1 ـ ترفع فيهما لافتات تحمل مطالب أو مواقف محددة؛
2 ـ ينادى فيهما بمطالب محددة؛
3 ـ يتجه المشاركون فيهما إلى الوزارات والإدارات الحكومية المعنية بالمطالب المرفوعة في الاحتجاج أو التظاهر؛
4 ـ يشارك فيهما أشخاص معروفون مسبقا باهتمامهم بالشأن العام، أو على الأقل باهتمامهم بموضوع الاحتجاج والتظاهر.
ثانيا / أعمال الشغب والنهب :
1 ـ لا ترفع فيهما لافتات؛
2 ـ لا ينادى فيهما بمطالب واضحة ومحددة؛
3 ـ يتجه المشاركون فيهما إلى الأسواق وإلى كل الأماكن الشعبية أو الحكومية التي تسهل فيها عمليات النهب والسرقة؛
4 ـ لا يعرف للمشاركين فيهما أي اهتمام سابق بقضايا الشأن العام.
والآن أترك لكم الإجابة على السؤال : هل ما حدث خلال الأيام الماضية كان احتجاجات وتظاهرات أم كان أعمال شغب ونهب؟
عن مشاركة بعض الجاليات في أعمال الشغب والنهب
من المصادفات أن أعمال الشغب والنهب التي شهدتها بعض مدننا تزامنت مع أعمال شغب ونهب أكثر اتساعا وخطورة في بعض مدن جارتنا الشقيقة السنغال، ومن المعروف أن لدينا جالية مسالمة في السنغال، لا تشارك في أي مظاهرات سلمية أو عنيفة تحدث في السنغال، وعندما تقع أعمال شغب في السنغال، كما هو حاصل الآن تنشغل تلك الجالية بالبحث عن طريقة ما للخروج الآمن، وبوسيلة ما لتؤمن من خلالها ممتلكاتها,
وعلى العكس من ذلك، ففي أعمال الشغب الأخيرة التي حدثت في بلادنا، ألقت الأجهزة الأمنية القبض على أجانب من بينهم سنغاليون شاركوا بقوة في أعمال الشغب تلك، بل إن من بينهم من قاد بعض فرق النهب والسرقة، وقد تواترت شهادات لمواطنين من مختلف الشرائح والمكونات بمشاركة أجانب في أعمال الشغب تلك.
عندما قررت الجهات الأمنية ترحيل كل أجنبي ثبتت مشاركته في أعمال الشغب تلك، وهذا هو أبسط ردة فعل يمكن اتخاذها بهذا الخصوص، قامت قائمة البعض، وأخذ البعض يوزع تهم العنصرية على الجهات الأمنية وعلى كل من يؤيد هذا القرار من المواطنين. ولعل من أهم الدروس التي يمكن أن نخرج بها من أعمال الشغب الأخيرة بخصوص ملف الجاليات :
1 ـ ضرورة التنفيذ الصارم للقرار الذي اتخذته إدارة الأمن الوطني بترحيل كل أجنبي ثبتت مشاركته في أعمال الشغب والنهب الأخيرة، مع العمل على اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع عودته مستقبلا إلى البلاد. ومن المهم أن لا يكون مصير هذا القرار كمصير تعميم سابق اتخذته نفس الإدارة قبل عام من الآن، وتحديدا في يوم 11 يناير 2022، يقضي بحظر ممارسة النقل العمومي للأشخاص والبضائع في بلادنا على الأجانب؛
2 ـ ضرورة العمل مستقبلا على وضع خطة لتوزيع الأجانب على مقاطعات العاصمة، وذلك بدلا من تمركزهم في مناطق محددة، ربما أصبحوا يشكلون فيها أغلبية؛
3 ـ ضرورة الانتباه إلى أن عدد سكان بلادنا يشكل أقلية إذا ما قورن بعدد سكان أشقائنا شمالا ( المغرب والجزائر)، أو أشقائنا جنوبا ( مالي والسنغال). فكل سكان موريتانيا إذا ما هاجروا إلى المغرب أو السنغال مثلا فإنهم لن يحدثوا خللا كبيرا في التركيبة السكانية للبلدين، وعلى العكس من ذلك فتكفي هجرة نسبة كبيرة من سكان المغرب أو السنغال إلى موريتانيا لإحداث خلل كبير في التركيبة السكانية لبلادنا.
الشرطة والحاجة إلى المزيد من التكوين وإعادة الهيكلة:
لستُ ممن يحمل الشرطة ( أو على الأصح بعض عناصر الشرطة) المسؤولية في وفاة عمار جوب، ولا أبرئها كذلك، فأنا من الذين ينتظرون نتائج التشريح والتحقيق ليتخذوا موقفهم من هذه الجريمة، ففي قضايا القتل يكون من أسوأ المواقف التي يمكن أن نتخذها هو أن يسارع الواحد منا في اتهام بريء بجريمة قتل، أو تبرئة قاتل من جريمة قتل، وذلك من قبل أن يحصل على أدلة قطعية تبرئ هذا أو تجرم ذاك.
وفي انتظار نتائج التشريح والتحقيق، فمن المهم أن نذكر بحاجة الكثير من عناصر شرطتنا الوطنية إلى التكوين، ومن المهم أن يعلم كل شرطي موريتاني بأن أي خطأ يرتكبه في أي مفوضية شرطة يؤدي إلى إزهاق نفس بشرية قد يتسبب في الكثير من المشاكل للبلد، فقتل “جورج فلويد” من طرف شرطي أمريكي كاد أن يعصف بأمن واستقرار أمريكا، وقتل “مهسا أميني” من طرف شرطي إيراني كاد أن يعصف بأمن واستقرار إيران، وقتل الشاب “خالد سعيد” في مصر، والصفعة التي تعرض لها “البوعزيزي” في تونس تسببتا بشكل مباشر في ثورتي تونس ومصر.
لا يمكن تجنب أخطاء الشرطة بشكل كامل، ولكن علينا أن نعمل كل ما في وسعنا من أجل التقليل منها ومن آثارها، وذلك من خلال التكوين أولا، وثانيا من خلال المسارعة في المحاسبة والعقاب عند حدوث أي خطأ مهما كان، وذلك حتى لا تتسبب تلك الأخطاء في كوارث للبلد.
لا لإخراج المجرمين من السجون من قبل انتهاء فترة العقوبة:
أعلنت الشرطة مؤخرا عن قبضها في بوكي على المجرم المسؤول عن حرق سيارات مواطنين في مقاطعة عرفات، واللافت في الأمر أن الشرطة ذكرت في بيانها أن المعني هو نفسه المجرم الذي كان قد ألقي عليه القبض يوم 8 سبتمبر 2022 ، أي قبل أقل من عام من الآن، وذلك بسبب ارتكابه لنفس الجرم، أي إشعال النيران في سيارات مواطنين أبرياء!!!
السؤال : لماذا لم يكن مرتكب هذه الجريمة داخل السجن الآن، ولماذا يطلق سراحه ليُسمح له بارتكاب المزيد من جرائم حرق سيارات المواطنين؟؟؟؟
أغلب الجرائم التي ترتكب في هذه البلاد يرتكبها أصحاب سوابق كان يفترض فيهم أن يكونوا داخل السجن لحظة ارتكاب تلك الجرائم، وهذا هو بالضبط ما دفعني قبل ست سنوات من الآن، وتحديدا في يوم الخميس الموافق 26 يناير 2017 أن أنشر مقالا تحت عنوان : “مجرمون وأصحاب سوابق يتجولون في الشوارع!”، وذلك بعد أن لفت انتباهي أن المجرمين الذي اغتصبوا وقتلوا وحرقوا الطفلة “زينب” رحمها الله في آخر شهر من العام 2014 هم من أصحاب السوابق، وأن المجرم الذي قتل السيدة “خدوج” في سوق العاصمة في آخر شهر من العام 2015 هو مجرم كان يمارس السطو و يتعاطى المخدرات وقد ألقي عليه القبض من قبل جريمة القتل التي ارتكب في سوق العاصمة، وكان يُفترض فيه أن يكون داخل السجن لحظة ارتكابه لجريمة قتل “خدوج” رحمها الله تعالى.
لا أدري إن كان المجرمون الذين ارتكبوا جريمة اغتصاب وقتل الطفلة “زينب”، والمجرم الذي ارتكب جريمة قتل “خدوج”، وغيرهم من عتاة المجرمين هم الآن خارج السجون، مما قد يسمح لهم بارتكاب المزيد من الجرائم البشعة.. فإلى متى سيستمر إطلاق سراح عتاة المجرمين ليرتكبوا المزيد من الجرائم؟
رسائل غير مشفرة في صندوق بريد النظام:
هناك رسائل غير مشفرة تم وضعها في صندوق بريد النظام من بعد انتخابات 13 مايو 2023، وكذلك من بعد أعمال الشغب التي أعقبت حادثة قتل عمر جوب، وعلى النظام أن يقرأ هذه الرسائل قراءة جيدة.
الرسالة الأولى: لقد انتهت الهدنة السياسية بعد الانتخابات الأخيرة، وإذا كان النظام قد أتيح له في السنوات الماضية أن يستفيد من أطول هدنة سياسية، فإن السنوات القادمة ستكون سنوات مواجهة وصدام حقيقي مع المعارضة؛
الرسالة الثانية : إذا كانت المعارضة التقليدية ( التكتل، التحالف، قوى التقدم) لها أساليبها الهادئة في مواجهة النظام وذلك نظرا لتجاوزها لمرحلة المراهقة السياسية، ودخولها في مرحلة الشيخوخة السياسية، فعلى النظام أن يدرك بأن هذه المعارضة لم تعد اليوم موجودة، وحلت محلها معارضة جديدة تعيش مراهقتها السياسية، ويبدو أنها على استعداد لاستغلال أي شيء في صراعها مع النظام، حتى ولو كان ذلك قد يهدد استقرار وأمن البلد، ولعل الأحداث الأخيرة التي أعقبت مقتل عمر جوب خير دليل على ذلك.
لقد تجددت المعارضة مع الانتخابات الأخيرة ولكن الأغلبية لم تتجدد، وبما أن هذه المعارضة الجديدة تعيش مراهقتها السياسية، فإنه لن يكون بالإمكان مواجهتها بأغلبية تقليدية تعيش مرحلة الشيخوخة، على الأقل في أساليب عملها؛
الرسالة الثالثة : أثبتت الأحداث الأخيرة أن الكثرة العددية لن تنفع النظام سياسيا ولا إعلاميا. صحيح أنها قد تنفعه في تمرير القوانين في البرلمان، ولكن الصحيح أيضا هو أنها لن تنفعه كواجهة سياسية فعالة، فالمائة نائب وزيادة لم يكن لها أي دور في الأيام الماضية في مواجهة عدد قليل من نواب المعارضة تمكن بالفعل من التجييش والشحن الإعلامي لحادثة مقتل عمر جوب، فكان ما كان من أعمال شغب ونهب.
الرسالة الرابعة: وهذه تكملة للرسالة السابقة إذا قرر النظام الاعتماد على فوزه الساحق في الانتخابات الأخيرة، وعلى نوابه وعمده الذين جاءت بهم تلك الانتخابات، فسيعني ذلك أن النظام سيواجه في الفترة القادمة مشاكل كبيرة على المستويين السياسي والإعلامي، وذلك نظرا لضعف الأداء المنتظر من واجهته السياسية والإعلامية الحالية؛
الرسالة الخامسة : كان من المقبول خلال المأمورية الأولى أن يتفهم المواطن حجم التحديات ( جائحة كورونا؛ حرب أوكرانيا؛ ملف العشرية)، وكان من المقبول كذلك أن يتفهم المواطن الصعوبات وأن يتقبل الوعود، ولكن مع انتهاء المأمورية الأولى ( تقريبا)، فإن المواطن لن يكون متفهما لأي تحديات، ولن يتقبل أي وعود، ولن يرضى بالحد الأدنى من الإنجازات…لابد في الفترة القادمة من إنجازات كبرى يصاحبها تسويق إعلامي وسياسي فعال؛
الرسالة السادسة : لابد للإصلاح من مصلحين، وهذه حقيقة لابد أن تكون حاضرة عند النظام في المرحلة القادمة، ولا بد كذلك للإنجاز من أشخاص قادرين على الإنجاز، ولعل الأصعب دائما هو اختيار المصلحين القادرين على الإنجاز. لابد للمرحلة القادمة من حكومة قوية قادرة على تحقيق إنجازات كبرى، ولابد أيضا من ذراع سياسي وإعلامي فعال وقادر على أن يسوق تلك الإنجازات، وأن يدافع عن النظام كلما كانت هناك حاجة لذلك، ومن المؤكد أن الحاجة لذلك ستتكرر كثيرا في المرحلة القادمة.
بهذه الرسائل الست الموجهة إلى النظام أختم هذا المقال الذي تجاوز كثيرا المساحة المخصصة له.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين الفاضل / ناشط جمعوي