spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

كامالا هاريس وواقع الليبرالية الأميركية

حسب المؤشرات البارزة، يبدو أن حظوظ نائبة الرئيس الأميركي الحالية كامالا هاريس مرتفعة لخلافة الرئيس جو بايدن في الترشح عن الحزب الديمقراطي الأميركي في الانتخابات الرئاسية القادمة. ومع أن صوت هاريس كان خافتاً خلال الولاية المنتهية، فإنها تمثل خطاً قوياً وفاعلاً في الحزب الديمقراطي، يختلف عن بايدن الذي كان مرشح الإجماع الحزبي في الانتخابات الماضية.

ومع أن كامالا هاريس لا تنتمي للتيار اليساري الذي يمثله السناتور بيرني ساندرز، إلا أنها تعبر عن التوجه الليبرالي التقدمي الذي بدأ سابقاً مع الرئيس باراك أوباما، إلى حد أن المرشح «الجمهوري» دونالد ترامب نعتها مؤخراً بالليبرالية المتطرفة. لقد دأبت كامالا هاريس في السنوات الأخيرة على الإحالة إلى كتابات وآراء الفيلسوف البرغماتي الأميركي جون ديوي، الذي عرف بانتقاداته القوية لليبرالية الكلاسيكية في نزعتها الفردية المناوئة للدولة والشأن العمومي، معتبراً أنها كانت مشروعة ومقبولة في بداية عصور الحداثة عندما كان الإنسان يواجه سطوةَ وسيطرة الأنظمة التسلطية القمعية.

أما في الوقت الراهن، فلا بد من تدعيم نفوذ وتدخل الدولة لحماية الحرية الحقيقية التي لا معنى لها إلا في مجتمع حر ومتضامن. ومن الواضح أن هذه الرؤية تتعارض مع التقليد القومي المحافظ الذي تحدثنا عنه الأسبوع الماضي، كما تتعارض مع التيار الليبرتاري الذي يمنح الأولوية للحقوق الطبيعية والحرية الفردية ومنطق السوق الحرة (أطروحة الفيلسوف روبرت نوزيك في الأهلية التي تتأسس على ثلاث مبادئ: حق التحكم المطلق في النفس، والحق الأصلي في الحيازة، ومبدأ الدوران العادل).

وفي مقابل النزعة المحافظة ما بعد الليبرالية التي يتبناها الرئيس السابق دونالد ترامب، ترى هاريس أن الديمقراطية ليست آلية إجرائية لضبط الساحة السياسية دون سقف معياري أو موجهات قيمية، بل هي ممارسة عملية متجددة ومسار مفتوح قابل للتعديل والمراجعة الدائمة. في هذا الباب، تكرر هاريس حرفياً عبارات جون ديوي الذي ألقى محاضرات نقدية حول الليبرالية سنة 1935 نُشرت لاحقاً في كتاب هام بعنوان «بعد الليبرالية؟ مسالكها المسدودة ومستقبلها». في هذا الكتاب يعتمد ديوي خطَّ «الليبرالية الراديكالية» التي تسعى إلى تنزيل القيم والمعايير الإنسانية الأصلية الليبرالية في الواقع الراهن. ووفق هذه المقاربة، ليست الحرية الفردية مفهوماً ميتافيزيقيا متعالياً أو مجرداً، بل هي فكرة موجهة للعمل الاجتماعي، ولا بد أن تتأقلم مع التجربة التاريخية الواقعية. وبغض النظر عن التصدع الأصلي بين الليبرالية الفردية الحقوقية والليبرالية الاجتماعية التضامنية، فإن مقولة «الليبرالية» في السياق الأميركي تحمل دلالة ثورية راديكالية في مواجهة أفكار الانكفاء على الذات والتمسك بالتقليد والموروث.

ومن هنا ندرك أن أهم فيلسوف ليبرالي أميركي معاصر، وهو جون رولز الذي وضع نظرية شاملة وعميقة حول العدالة التوزيعية، يصنَّف في صف اليسار الاجتماعي، لكونه وضع مفهومَ التضامن في صلب أطروحته حول الحرية والمساواة في المجتمع الصناعي الجديد.

لقد تبنى الديمقراطيون الأميركان منذ نهاية السبعينيات أطروحةَ «الليبرالية المساواتية» كما بلورها رولز، لكنهم اصطدموا بالمصاعب العملية المتزايدة المتعلقة بالمطالب الهوياتية في مجتمع تطبعه التعددية الثقافية وانفجاز الخصوصيات الحقوقية. ذلك ما أدركه الفيلسوف الأميركي مايكل صاندل الذي يعتبر من أهم قراء رولز ونقاده، وقد أصدر منذ سنوات قريبة كتاباً هاماً بعنوان «استبدادية الاستحقاق»، بيَّن فيه أن عدالة الحقوق والمساواة الأصلية تؤدي في نهاية المطاف إلى أبشع أنواع الغبن والإقصاء، بما يفسر صعود التيارات الشعبوية المتطرفة التي ترفع مطالب المجموعات الواسعة التي ألغتها النظم الحقوقية المجردة والمثالية. ومن هنا ضرورة اعتماد مفهوم تضامني للعدالة، لسد الطريق أمام النزعات الشعبوية التي تتغذى من إشكاليات الاعتراف والمطالب الهوياتية الخصوصية.

ولا بد هنا من الإشارة إلى أن أفكار صاندل تحظى باهتمام واسع من لدن تيار عريض داخل الحزب الديمقراطي الأميركي، يرى فيها المسلكَ إلى تجديد الأطروحة الليبرالية في ثوابتها التقدمية الحداثية في مواجهة النزعات القومية المحافظة.

من الواضح إذن إن الصراع السياسي المحتدم راهناً في الساحة الأميركية يتمحور حول الإرث الليبرالي، الذي يرى البعضُ أنه لا بد من تجاوزه من منطلق الديمقراطية القومية المحافظة، ويرى البعض الآخر أنه أفق ثابت لا محيد عنه وإن كان يحتاج إلى المراجعة الدائمة والتجديد المستمر. ومن الواضح أن الانتخابات الأميركية القادمة ستكون مناسبة كبرى لتصادم هذين الخطين المتمايزين.

spot_img