أعيد انتخاب نجيب أبوكيلة ذي الأصول الفلسطينية رئيساً للسلفادور في أميركا اللاتينية من دون مصاعب، مزهواً بانتصاراته المذهلة على الجريمة في بلد كان إلى عهد قريب تطلق عليه تسمية أخطر بلد في العالم. الرجل الذي يعرّف نفسه بأنه «الفيلسوف الحاكم» على الطريقة الأفلاطونية، أعلن حالة الطوارئ في البلاد ووضع 2 بالمئة من سكانها في السجون، واتهمه معارضوه بإلغاء استقلال القضاء عملياً.. لكن الجميع يتفقون على نجاحه الباهر في محاربة العصابات العنيفة التي كانت تقوض الأمن في جمهورية السلفادور، ومن هنا سر شعبيته العالية.
هل تنطبق صفة الحاكم الفيلسوف على أبوكيلة وأضرابه من الرؤساء الذين يرون أنفسَهم قادرين من خلال معارفهم وعلمهم على توجيه المجتمع وحمله بالإكراه والقوة على مصالحه التي لا يدركها السواد الأعظم من الناس؟ معلوم أن أفلاطون انتقد الديمقراطيةَ واعتبر أنها تقوم على الوهم والفوضى وتكرّس نمطاً من المساواة التي ليس لها مقومات في الوجود والواقع (الكتاب السادس من الجمهورية). كما اعتبر أن النظام الديمقراطي عاجزٌ عن إدراك الخير الجوهري المشترك، لأنه يقوم على النوازع النفعية، في حين أن الفيلسوف هو وحده المؤهل لمعرفة المنظور العقلي للعدالة ومن ثم يكون مهيأ لقيادة المدينة وحملها على السعادة والفضيلة.
وهكذا اعتبر الفيلسوف النمساوي الانجليزي كارل بوبر أن أفلاطون بنى تصوراً فلسفياً للمجتمع المغلق والاستبداد السياسي، نجد صيغه الراهنة في فلسفتي هيغل وماركس. والسؤال الذي يطرح نفسَه الآن: هل عاد الفكر السياسي إلى استبدادية العقل والمعرفة بعد أن ساد في المنظور الليبرالي الربطُ العضوي بين الحرية والتعددية، بما يعنيه هذا الربط من قول بأن معايير الحقيقة العمومية تتحدد في النقاش الجماعي وتصادم الآراء والأفكار؟ صحيح أن الحالة الليبرالية التعددية ما تزال هي الأفق السياسي في أغلب المجتمعات الصناعية الحديثة (حيث السلطة تحتل مكاناً فارغاً في الحقل السياسي حسب عبارة كلود لفور)، إلا أن ما نشهده منذ عقود هو ما أطلق عليه العديدون «ديكتاتورية الخبير أو التكنوقراطي» التي تعني أن تَعقُّدَ فنون الحكم والتسيير فرض إخراجَ الملفات السياسية الجوهرية من يد الساسة المحترفين إلى العلماء التقنيين الذين هم وحدهم المؤهلون لقيادة المجتمعات الراهنة.
لا يهم إن كانت البرلمانات ما تزال تصدِر القوانين الشرعية، فالحقيقة التي لا مراء فيها هي أن المصدر الحقيقي لهذه القوانين هو الخبراء الذين يعرفون بدقة الملفات المالية والبيئية والمعلوماتية التي هي أساس الفعل السياسي اليوم بما هو تسيير للحقل العمومي. ولهذه الظاهرة علاقة مباشرة بانهيار الأحزاب السياسية في الديمقراطيات الغربية، وانحسار ثنائية اليمين واليسار التقليدية، ذلك أن الحكومات المتعاقبة تطبق في الواقع نفس السياسات والإجراءات من دون اختلاف نوعي بين التشكيلات السياسية. في مثل هذا الوضع يدخل الحقل السياسي فرسانٌ جددٌ مثل القضاة الذين غدوا فاعلين مؤثرين في الصراع السياسي إلى حد أن بعضهم بات يتحدث عن «حكومة القضاة»، وكذا رجال الأعمال وناشطو الإعلام الجديد الذين هم أساس الفاعلين السياسيين الحاليين. ومن هذا المنظور ليست حالةُ أبوكيلة نشازاً؛ ففي أعرق الديمقراطيات لا يتردد بعض الزعماء في التفاخر بصفة الديكتاتوري والمستبد، في مواجهة الفوضى والانحطاط وفساد النخب. «المستبد الجديد» هو نمط من الحاكم الفيلسوف على الطريقة الأفلاطونية القديمة؛ يدّعي احتكار الحقيقة والمعرفة، ويتصور السياسة في شكل ممارسة تسييرية تقنية، ومن ثم يلجأ للخبير والعالم ويبعد رجل السياسة التقليدي المتَّهمُ بالمثالية والشطط الأيديولوجي وعدم الواقعية.
كان هوبز، فيلسوف الليبرالية الأول، يقول إن الجمهور لا يمارس حريتَه المطلقة إلا مرةً واحدةً؛ عندما يتنازل طواعيةً عن حقوقه الفردية لصالح الدولة التي تجسد مصالحَه في بناءٍ قانوني منظم. ومع أن هوبز تصور السياسةَ وفق نظام التعاقد الاجتماعي الحر، إلا أنه في الوقت نفسه أسس للتصور التقني الإجرائي للحقل العمومي بحسب البراديغم الميكانيكي. ولذا فتجربة الحكم في الفكر الليبرالي الحديث هي بالأساس تجربة تسيير بالمعنى التقني الاقتصادي، ولو تدثرت – كما بيّن جورجيو أغامبن – بهالة القداسة والمجد المستمدة من خلفيات دينية لاهوتية. هل يشكل هذا التناقض المؤسس بين مبدئي التعددية الفردية الحرة والتسيير التقني الفني للسياسة الخلفيةَ البعيدةَ لظاهرة العودة الراهنة للحاكم المطلق في المجتمعات الليبرالية المتطورة؟ تبدو الإجابة بالإيجاب واضحة وتفسر صعود الشعبويات السلطوية من داخل الأنظمة الديمقراطية التي تشهد في الوقت الحاضر عودةً واضحةً لنموذج الحاكم الفيلسوف.