إن الشعبين الأمريكي والإنكليزي شعبان تفرقهما لغة واحدة
هل يعقل ان نظل تحت سلطان “هاجس” إثبات “عروبتنا” وانتظار “الاعتراف” بدور علمائنا الأجلاء وشعرائنا المفلقين ولغويينا المبهرين وشراحنا المبدعين وفقهائنا المتمكنين ومفتينا الألمعيين الذين لعبوا، جميعهم، أدورا بارزة دعمت النهضة في الشرق بعد كبوة الانحطاط، وهي ذات الأدوار التي لعبوها بقوة في سبيل نشر الإسلام والتمكين للغة العربية في الغرب الإفريقي حتى خط الاستواء؟
وهل يظل من باب المنطق أن نبقى نتحدث عن المركز باعتبارنا بعيدين عنه وعن الهوامش والأطراف وكأنا في دائرتها ثابتين، مصفدين بأغلال “الشعور” بالدونية وعقدة الإحساس باللاشرعية؟
الحقيقة أن نظرية “المركز والهوامش” المتجاوزة لم تكن عند البعض من المتحررين من عقد الدونية والاعتراف بالانتماء سوى ضربا من نسج خيال المولعين بـ”التجزئة” و”الهرمية”.
ولقد استغرقتنا هذه النظرية وضيعت علينا “بناء” نهج فكري مستقل بقدراتنا الذاتية الهائلة المعطلة، وقد اكتفينا، عوضا عن حمل مشعل الأجداد واتباع منهجهم في التحصيل وتنافسهم في الإنتاج، بالتغني بهم متناسين أنهم كانوا أمة لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، وأن ضرورات العصر وخصوصياته المستجدة تلزم تكييف العطاء والتحصيل تحسس نبض العصر وضربات قلبه المتسارعة.
ونحن اليوم بحاجة ماسة، أكثر من أي وقت مضى، إلى هذا النهج لرسم مسار يستوعب منجز علمائنا الأجلاء الذين سبقوا وقضوا نحبهم، فنفض الغبار، دون تسويق، عن الدرر التي تركوها ونعيد الاعتبار لإسهاماتهم المتنوعة ـ التي لا مراء فيها ـ وقد بدأت منذ اللحظات الأولى لوصول طلائعهم في ركبان الحجيج من بلاد شنقيط إلى السودان ومصر ونجد والحجاز والعراق والشام وليسندوا فور وصولهم النهضة بعطاء مذهل وأخاذ بشهادة الطبقة الرائدة آنذاك زمنهم محمد عبدو طه حسين الذي كان يحضر دروسهم في النحو والصرف واللغة في رحاب الأزهر؛ نهضة كانت تتحسس يومها الطريق إلى الانبعاث وتنشد الاستواء والاشعاع من جديد.
وأثبت التجارب التاريخية العالمية أن الشعوب جميعها لا تتسول خصوصياتها الحضارية والفكرية والعلمية والأدبية والابداعية من غيرها من الشعوب، بمن فيها التي تتقاسم وإياها اللغة والانتماء المشترك، ولا تنشد الاعتراف من موقع الضعف، بل وتفرض نموذجها الخاص بها على خلفية الاعتزاز به وتسعى من ثم إلى تسويقه ونشره بثقة وجدارة.
ولنا في “كيبيك الفرنسية” بكندا مثل نسوقه مع غيره حيث أنها استطاعت أن عرضت خصوصيتها الامريكية في فرنسا وكذلك فنونها وأدبها، وتلك كوريا الجنوبية انفصمت عن الشمالية رغم أن اللغة الأم واحدة، وأمريكا وكندا عن بريطانيا حتى قال أحد المفكرين الأمريكيين إن الشعبين الأمريكي والإنكليزي شعبان تفرقهما لغة واحدة.
وإذ ليست فرنسا مركزا تذوب فيه شعوب دول أخرى وفضاءات مستقلة، فإن “الكانتون السويسري” الناطق بنفس لغة فرنسا، وكذلك “كيبيك” بالفدرالية الكانادية و”بلجيكا الوالونية”، ليست جميعها – ومطلقا – هوامش. لكل واحدة طابعها المميز في الفكر والأدب وخصوصيتها في الفنون والمجالات الإبداعية الأخرى.
وليست بريطانيا اليوم مركزا ودول “الكومنولث” هوامشا حيث تصرف هذه الدول شؤونها وتبدع شعوبها بلغة “شكسبير” في مراعاة تامة للطابع الحضاري والخصوصية الفكرية والعطاء الثقافي المتميز وجميع مجالات الإبداع المختلفة.
لكن الحقيقة المرة – التي نكابر ولا نعترف بها رغم أنها تفقأ العيون وتصم صارخة الآذان – تتمثل في أن وضعنا الثقافي يعاني من:
– نضوب في الفكر،
– وغياب لمحفزات الابداع،
– وتدني وضعف المنتج الفكري والمخرج العلمي على كافة الأصعدة وفي جميع المجالات.
والواقع أن “الصدمة” التي أحدثتها هذه الحقيقة تسببت في ظاهرة “التقٍوقع” الحاصلة منذ عقود داخل “الأنا” المجروحة في كبرياء الأجداد من جراء عدم الاعتراف المستحق خارج الوطن، والتي يتقمصها الأحفاد العاجزون عن تقديرها والمحتجزون لها في احتكار نظري رجعي مرفوض وادعاء شططي من ناحية، وعن تمحيصها وتحيين “الدارس” المتجاوز من فصولها حتى تظل مرجعا قائما بمقاييس وميزات ومتطلبات العصر، من خلال استخدام القدرات الذاتية التي تعتمد على المناهج والوسائل والأدوات الحديثة المتطورة للإسهام في حماية الإرث العظيم.
بناء على ما تقدم وجب على افراد طبقة البلد المتعلمة أن تكف عن المطالبة بالاعتراف من أي نوع كان ولأية جهة تكون أو كيان، وتتدارك حقيقة أن الشعوب هي التي تصنع مصائرها وترفع هاماتها وتسوق إبداعها وتفرض احترامها.