كانت حادثة غرق الغواصة «تيتان» في قاع المحيط الأطلسي على مقربة من حطام سفينة «تيتانيك» الشهيرة، من أهم الأخبار التي هزت العالم مؤخراً. وقد أعادت هذه الحادثةُ المؤلمةُ إلى الأذهان قصةَ الباخرة تيتانيك التي اختفت تحت جبال الجليد في أبريل عام 1912، وهي في رحلتها الأولى بين بريطانيا عاصمة العصر الصناعي والعالم الجديد (أميركا).
وكنتُ كغيري قد شاهدت عام 1998 فيلمَ «تيتانيك» الذي أخرجه جيمس كامرون بعد سنوات من اكتشاف حطام السفينة الأسطورية. في هذا الفيلم استعادةٌ لأجواء عالم الثورة الصناعية التقنية وما أفضى إليه من صراع بين الطبقة البورجوازية الصاعدة والطبقات المستغَلة الهشة. كما أن الفيلم عكس مناخَ الافتتان بالتكنولوجيا الحديثة وما واكبها من آمال وتطلعات واسعة في رقي البشرية وتطورها وسيطرتها على الطبيعة.
وكما هو معروف ذهب ضحية غرق السفينة قرابة 1500 قتيل، أغلبهم من ركاب الدرجتين الثانية والثالثة الذين لم تتوافر لهم قوارب النجاة، وأصبحت هذه الحادثة المشؤومة رمزاً لمخاطر وسلبيات التقدم العلمي والتقني، وانحسار مُثُل التنوير والليبرالية الإنسانية.
وقعت الحادثة قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى التي أدخلت المعمورةَ في مأساة كونية قاتمة، فانتشرت أفكارُ التشاؤم واليأس في الفلسفات والآداب، وهيمن شعور غرق البشرية في محيط لا قاع له. وفي السنوات الماضية الأخيرة التي عرفتْ قيامَ الثورة التقنية الصناعية الجديدة، تجدد الإحساس بقدرة العلم والتكنولوجيا على تغيير الوضع البشري وتحقيق أمل الإنسان في التفوق والسيطرة والانتصار على المرض والعجز والموت.
وما لمسناه من خبر غرق الغواصة «تيتان» هو انقشاع لهذا الوهم الطوباوي مجدداً بفشل زواج المال والتكنولوجيا في بلوغ الهدف الذي عجزت عن تحقيقه النخبةُ الأوروبية في بداية القرن العشرين.
وعقب الحادثة الأخيرة، كتب المفكر الفرنسي جاك أتالي أن غواصة تيتان تغطي على نمطين آخرين من الغوص في البحر: قوارب الهجرة غير الشرعية التي تموج بها المحيطات هرباً من الفقر والحروب، والباخرة البشرية الكونية المهددة بالضياع والغرق. في غواصة تيتان، نلمس سمات مجتمع الوفرة الصناعية، من افتتان بالاستعراض العدمي، وذوق استهلاكي رفاهي، وثقة عمياء في الماكينة التقنية، وطغيان للصورة والإعلام التواصلي. وفي قوارب الموت، نلمس جانباً أساسياً من طبيعة الحركة الانتقالية البشرية الحالية، حيث نشاهد ملايين اللاجئين الفارين من الفتن والجوع إلى قلاع الغرب المحصنة بالأسوار التقنية والقانونية المنيعة.
أما البشرية كلها فتبدو اليوم في سفينة كبرى ضائعة، لا وجهةَ لها، لا ينتبه ركابُها المهووسون بالقوة والمال إلى المخاطر المحدقة التي تهدد مستقبلهم ووجودهم، ولا يحسون بآلام ومآسي جوارهم المنكوب. ما يبيِّنه أتالي في مقاله من خلال نظرية «القوارب الثلاث» هو انحسار معادلة التقدم العلمي والسيولة البشرية السريعة المتولدة عنه، أي قدرة التقنيات الحديثة منذ العصر الفيزيائي في القرن السابع عشر على تسريع وتيرة انتقال البشر التي تمتد إلى مواردهم المادية والثقافية والرمزية. ووفق هذه الديناميكية، أصبحت صورة السفينة المتنقلة رمزاً لحراك بشري واقتصادي ومالي متسارع، وصل ذروتَه مع حركية العولمة الراهنة التي اعتبر أتالي أنها أعادت العالمَ إلى حقبة البداوة الجديدة.
الانتقال الحر هو المحدد الرئيسي للمنظومة الليبرالية في مقوماتها الاقتصادية والقانونية والسياسية، حيث إن الفكر الإنساني تحول من رمزية المدينة المسورة الثابتة التي كانت نموذج الفلسفة الكلاسيكية، إلى رمزية الباخرة العابرة للبحار بما نلمسه لدى جيل كامل من الفلاسفة، من لايبنتز إلى جان بول سارتر. ومع أن النظم القانونية والسياسية الحديثة كرَّست فكرةَ المواطنة في حدود الدولة القومية ذات المجال الجغرافي السيادي الثابت، فإنها بنت معايير الفعل السياسي والاجتماعي على مقولة التقدم، أي أفق التحول التاريخي والانتقال النوعي للجنس البشري.
ومن هنا المفارقة العصية التي عانت منها العصور الحديثة: التثبيت القانوني للانتماء على أساس ثوابت الجغرافيا، في الوقت الذي يشكل التحول نطاق المعنى واتجاه الفعل. وها هي هذه المفارقة تؤدي حالياً إلى بناء الأسوار والجدران لمنع حركة الهجرة واللجوء، في حين أن حركية العولمة تقتضي تحرير التنقل وهدم الحواجز والقيود.
وهكذا نجمت عن هذه المفارقة أوضاعٌ قانونية ملتبسة وإشكالية: عديم المواطَنة الذي لا ينتمي لدولة أو كيان سياسي، اللاجئ المؤقت فاقد الحماية، المهاجر غير الشرعي القافز فوق الأسوار والمختفي في الكهوف المسدودة.. إلخ. وكما يقول أتالي فقد أصبح العالَم كله في شكل باخرة تيتانيك كبرى بدرجاتها الثلاث المتفاوتة، ولا يمكن لأي من الركاب النجاةَ منفرداً بنفسه.
أ.د السيد ولد أباه / مفكر موريتاني