spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

صيام عرفة بين عموم الرؤية وخصوصها

الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

وبعد فإن مذهب عموم الرؤية هو قول مالك وجمهور أصحابه وكثير من أهل العلم كأبي حنيفة وأصحاب الرأي، والليث، وأحمد وقول عند الشافعية؛ فمذهب هؤلاء أن الهلال اذا ثبت في موضع من العالم الإسلامي وجب الصيام والفطر على كل من ثبتت عنده رؤيته، ومقتضى هذا المذهب استحباب صوم عرفة يوم يقف الحجاج بعرفة، خاصة مع تطور وسائل الاتصال وتحول العالم إلى قرية كونية…

وهذا المذهب نسبه ابن المنذر لجمهور الفقهاء (انظر طرح التثريب للعراقي 4/ 116) ونسبه البغوي في شرح السنة لهم كذلك. وله أدلة قوية مبسوطة في غير هذا الموضع، وهو مترجح في عصرنا هذا خاصة لإمكان نقل الرؤية عبر وسائل الإعلام والتواصل في أسرع وقت، ولم يكن ذلك متاحا في القديم. ومن أعظم أدلته قوله صلى الله عليه وسلم: “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته” فعلق الصوم بالرؤية، وهو خطاب للجميع.

ومذهب ابن عباس والشافعي وجماعة من اهل العلم، خصوص الرؤية وأن لكل أهل بلد رؤيتهم، واضطرب القائلون به في تحديد البلد اضطرابا كثيرا؛ ولم يستقر أمرهم في ذلك على أمر منضبط، وهو في الحقيقة لصالح المذهب الأول لأنه أكثر انضباطا وأليق بالشريعة.
وعمدة القائلين بخصوص الرؤية حديث كريب، وفيه أن ابن عباس وهو في المدينة لم يصم بالرؤية التي ثبتت عند معاوية رضي الله عنه بالشام، وقال: نحن رأيناه يوم كذا فلا نصوم حتى نرى الهلال، او نتم العدة، وقال: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو ليس بصريح في الرفع؛ ولهذا تأوله بعض العلماء بأنه فهم منه لقوله صلى الله عليه وسلم: “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته” خاصة وأنه رضي الله عنه من رواة هذا الحديث، وأنه لم يثبت عنه حديث آخر في خصوص الرؤية. وفهمه رضي الله عنه وإن كان في المرتبة العليا من الفهم والفقه فإنه غير ملزم لغيره من المجتهدين، ومعلوم ما قال بعض الأصوليين في مسألة عموم حكايات الأفعال…
ومذهب ابن الماجشون المالكي وروايته عن مالك أن الهلال يعم ان ثبت عند الخليفة العام، او نقلت رؤيته تواترا؛ وأما ان ثبت عند حكام الأمصار فلا يعم إلا من في إيالتهم، وهذا المذهب هو الذي جرى به العمل في الدول الإسلامية اليوم.
وعليه فمن صام عرفة تبعا للموقف مقلدا لمذهب مالك القائل بعموم الرؤية فلا بأس عليه ان شاء الله، وهذا المذهب هو أرجح المذاهب، وبه أخذ كثير من العلماء المحققين، مع أن من صامه فقد خرج من الخلاف وصام يوما يطلب صيامه اتفاقا؛ لأنه إما ان يكون يوم التروية او يوم عرفة، وسلم من صوم يوم يحتمل أن يكون يوم العيد.

وعلى هذا فمن صام من مقلدي مذهب مالك يوم الخميس على أنه يوم عرفة فلا لوم عليه لجريانه على مذهب إمامه، خاصة على القول بأن حكم الحاكم لا يدخل في العبادات التي ليست لها صبغة جماهيرية كما هو مذهب امام الحرمين وبعض المحققين.

وهذا الأمر من قبيل المندوبات، وفي عدم التظاهر به مخرج من التشويش، مع أنه لا تشويش أصلا.

ومن قلد أحد المذاهب الأخرى فلا لوم عليه. واختلاف العلماء رحمة. لكن الخروج من الخلاف أولى وأرجح،
كما قال بعض علماء بلدنا وهو الشيخ سيدي مولود بن محمد بن الشيخ سيدي الأمين رحمهم الله ناظما كلام المواق في سنن المهتدين:

وإن ترد أقصى مراتب الكمال*** في الاتباع فاقف أضيق المقال
في حق نفسك فقط لا غيرها*** إذ لست آمنا إذا من شرها
وخل كل من سواك يتبع*** مشروعه ضيقه والمتسع
لقولهم: ولم يجز للورع*** أن يحمل الناس على التورع

وأنبه أخيرا على أن كلام الحافظ ابن عبد البر الذي حكى فيه الاجماع على عدم عموم الرؤية ان تباعدت البلدان جدا كخراسان من الأندلس تعقبه المازري والشوكاني، وتواطأت نصوص القائلين بعموم الرؤية على خلافه. وهو محمول عند بعضهم على استحالة التواصل قديما، ومعلوم أن العلماء حذروا من إجماعاته رضي الله عنه. وقد حذر العلماء قديما من إجماعات ابن عبد البر واتفاقات ابن رشد، وذكر ذلك الإمام الهلالي في نور البصر، ونظمه العلامة محمد النابغة الغلاوي في “بو طليحية” مع أن ابن عبد البر نفسه وإن حكى هذا الإجماع في الاستذكار فقد صرح بما يخالف ذلك في التمهيد، وجعل مقتضى القول بعموم الرؤية أن الهلال إذا ثبت أن في خراسان ونقل خبر ثبوته بعد ذلك بزمن إلى اهل الأندلس وجب عليهم قضاء ما فاتهم وفق تلك الرؤية وجعل ذلك من الاوجه التي ترجح مذهب خصوص الرؤية (التمهيد 1/ 337) والتمهيد وان كان سابقا على الاستذكار فهو أصله، وكلام الشيخ فيه أوضح من كلامه هناك.

هذا ما تحصل عندي في الموضوع. وسأرفق رابط مقال سابق يتحدث عن عموم الرؤية ويرجح أدلته.عموم رؤية الهلال في ضوء المستجدات
https://www.alwahdawi.info/node/13231

spot_img